Flag Counter

Flag Counter

Sunday, July 14, 2024

أسباب صعود القوة الأمريكية وجذوره التاريخية

هناك الكثير من النقاش وهو مستمر ومتجدد عن دور الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي واقتراب نهاية الولايات المتحدة التي سوف  تنهار مع انهيار عملتها. والحقيقة أنني قرأت عشرات المقالات وشاهدت فيديوهات عن ظهور الولايات المتحدة وتطورها من بضعة مئات من المستوطنين الى ثلاثة عشرة ولاية على طول ساحل المحيط الأطلسي حيث كانت فيرجينيا هي أول مستعمرة يتم تأسيسها وتضم الولايات المتحدة حاليا ٥٠ ولاية ومنطقة العاصمة واشنطن. الحديث عن تأسيس الولايات المتحدة يتجاهل العوامل الاقتصادية التي كانت هي السبب الرئيسي في انتقال رؤوس الأموال والأثرياء من بريطانيا بشكل رئيسي ودول أوروبية أخرى الى الأراضي الجديدة.

هناك من يتوقعون أن تنهار الولايات المتحدة كما تنهار المنازل والعمارات, تقع مرة واحدة وينتهي الأمر ومن يستطيع النجاة فقد نجا وإلا سوف يدفن تحت ركامها. تفكير ساذج وبدائي يستخدمه من يهمهم أن يملأوا عواميد الصحف بأي نوع من الهراء  والظهور على وسائل الإعلام من أجل الحديث عن موضوع متكرر ليس فيه أي جديد.

كانت أوروبا خلال الفترة التي سبقت الحملات الصليبية (١٠٩٦م-١٢٩١م) تعاني من كل مشاكل الدنيا التي يمكن أن تبتلى بها الدول من فقر, مجاعة, إنتشار الأمراض وبالطبع الحروب بين الأمراء الأوروبيين حيث تم تنصير القبائل المحاربة البربرية خصوصا الفايكنغ والسلاف وشعوب دول أوروبا الشرقية التي كانت على الديانة الوثنية والتي كانت في حاجة الى متنفس لمهارات القتال لديها ولم تجد الكنيسة حلاً أفضل من إرسالهم بعيدا الى المشرق أو في حملات عسكرية ضد الهراطقة في أوروبا. بابا الكنيسة الكاثوليكية أوربان الثاني أعلن سنة ١٠٩٥م عن  الدعوة الى تحرير القدس وكنيسة القيامة في مؤتمر عقده رجال الدين في مدينة كليرمونت فران الفرنسية ومنح صك غفران من الخطايا لكل من يشارك في تلك الحملات.  ولكن الحروب الصليبية لم تكن مقتصرة على المسلمين فقد نهبت الحملة الصليبية الرابعة(١٢٠٢-١٢٠٤) مدينة القسطنطينية وساهمت في إضعافها وصولا الى سقوطها سنة ١٤٥٣م نتيجة غزو الجيوش العثمانية بقيادة محمد الفاتح. أما الحملة الصليبية ضد طائفة الكاثار التي تتهمها الكنيسة بالهرطقة فقد استمرت ٢٠ عاما(١٢٠٩-١٢٢٩). وقد كانت هناك حملات صليبية في مناطق مختلفة من أوروبا ضد مخالفي الكنيسة من كانت تصفهم بأنهم مهرطقون.

إن أول نتيجة مباشرة للحملات الصليبية هو الإحتكاك بالشرق وثقافته التي كانت متفوقة على أوروبا في العلوم, الأدب, الإبتكار والإختراع وكافة المجالات العلمية. الشرق كانت لديه ثروات هائلة بسبب إحتكار طرق تجارة التوابل والحرير التي كان لابد من أن تمر على مناطق يسيطر عليها المسلمون ومن خلال الحملات الصليبية فقد حصلت دول أوروبا على ثروات تراكمت لدى الشرق على فترات زمنية ممتدة الى مئات السنين وذلك مايُعَرِّفُه الإقتصادية بأنه "عملية التراكم الأولي." إنَّ التجار والأثرياء والمصرفيين اليهود كانوا هم القوة الدافعة والممول الرئيسي لتلك الحملات التي تم تغليفها بغلاف ديني وهو تحرير القدس من المسلمين. وقد كانت هناك العديد من الأسر الثرية والمصرفية في البندقية, فلورنسا وجنوة تنصرت في العلن بينما حافظت على ديانتها اليهودية في السر وساهمت في تمويل الحملات الصليبية وحققت ثروات هائلة.

إن الحملات الصليبية كانت أقرب الى زلزال اجتماعي, اقتصادي وسياسي أصاب أوروبا وأدى الى تغييرات لا يمكن إنكارها خصوصا مع عملية التراكم الأولي التي تطلع الصليبيون الى استثمار تلك الأموال في الخطوة القادمة وهي حركة الكشوفات الجغرافية(القرن الخامس عشر-القرن السابع عشر) التي بدأتها البرتغال وإسبانيا وشاركت فيها فرنسا, هولندا, بريطانيا, روسيا ودول أوروبية أخرى بأدوار أقل أهمية. أحد تلك التغيرات التي تزامنت مع نهاية الحروب الصليبية في الشرق وسقوط أخر الإمارات الصليبية في ساحل فلسطين خلال عهد السلطان المنصور سيف الدين قلاوون وابنه السلطان الأشرف صلاح الدين بن خليل قلاوون كانت حركة النهضة الأوروبية(القرن١٤-القرن١٧)(Renaissance) التي بدأت في ايطاليا و انتشرت الى باقي أنحاء أوروبا.

ولعلنا نلاحظ التسلسل الزمني للأحداث بداية من الحملات الصليبية(١٠٩٦-١٢٩١) ثم حركة النهضة(القرن ١٤-القرن ١٧) ثم حركة الكشوفات الجغرافية(القرن ١٥-القرن١٧) والتي تزامنت بدورها مع الحركة الإستعمارية التي استمرت خلال القرن العشرين وعصر التنوير(القرن١٧-القرن١٩). إن تأسيس ونشوء وبروز الولايات المتحدة ودورها على الساحة الدولية وهيمنتها العسكرية لم يكن حادثا طارئا أو بسبب الصدفة المحضة بل نتيجة مجهودات مضنية على المدى الطويل.  كانت هناك تغيرات إجتماعية وإقتصادية ساهمت في بدايات ظهور الرأسمالية والثورة الصناعية في إنجلترا(١٧٦٠-١٨٤٠) وهذه التغيرات هي إنتقال السلطة تدريجيا من طبقة رجال الدين الى الإقطاعيين ثم البرجوازيين ومن ثم الرأسماليين. الثورات البرجوازية في أوروبا والتي بدأت عصر التنوير بالثورة الفرنسية(١٧٨٩-١٧٩٩) وجهت الضربة القاضية الى أنظمة الحكم الملكية في أوروبا وحلفائها من الإقطاعيين وانتشرت مبادئ الثورة الصناعية من إنجلترا الى دول مثل فرنسا ونصف الكرة الأرضية الغربي.

الطبقة البرجوازية التي رسَّخت هيمنتها على مقاليد الأمور في أوروبا بدأت في البحث عن التوسع الإستيطاني الإستعماري من أجل السيطرة على المزيد من الموارد والأسواق بهدف تصريف الفائض من الإنتاج. الولايات المتحدة كانت وجهتها الرئيسية حيث كانت هناك بالفعل ثلاثة عشرة مستعمرة نجح مهاجرون أوروبيون خصوصا من بريطانيا في تأسيسها ولكن الطريق نحو تحقيق ذلك لم يكن مفروشا بالورود. المستعمرون الأوروبيون أعلنوا العصيان ضد بريطانيا في المستعمرات(١٣ مستعمرة) وكانت حرب الإستقلال(١٧٦٥-١٧٨٣) ثم بدأت عملية التوسع نحو الداخل الأمريكي وضم المزيد من الأراضي بطرق مختلفة مثل ولاية آلاسكا التي قامت  الحكومة الأمريكية بشرائها من روسيا القيصرية, ولاية تكساس التي ضمتها بالقوة من المكسيك بعد عملية تمرد ضد القوات الحكومية المكسيكية قدمت لها الحكومة الأمريكية الدعم المالي والعسكري, ولاية هاواي التي ضمتها الحكومة الأمريكية بعد عملية إستفتاء حامت حولها شبهة التزوير. والحقيقة أنه كانت هناك عدة ولايات بالإضافة الى تكساس استولت عليها الولايات المتحدة من المكسيك مثل كاليفورنيا, أريزونا, نيومكسيكو, نيفادا, يوتا و وايومنغ. كما أن ولاية آلاسكا ليست الولاية الوحيد التي قامت الحكومة الأمريكية بشرائها من دولة أجنبية فقد قامت سنة ١٨٠٣ بشراء ولاية لويزيانا من فرنسا.

وهكذا نرى كيف أن رؤوس الأموال التي كانت تسيطر عليها بشكل رئيسي مصارف جنوة, البندقية  وفلورنسا, ثروات الشرق والعالم الجديد التي تراكمت في أوروبا, قد إنتقلت الى بريطانيا لتبدأ الثورة الصناعية ثم الى الولايات المتحدة. أما أسباب إختيار بريطانيا من أجل بداية الثورة الصناعية فإنه هناك عدة عوامل لعبت دورا مهما ولعل أهمها أن بريطانيا عبارة عن جزيرة يسهل الدفاع عنها بواسطة الأسطول البحري البريطاني الذي كان هو الأقوى أوروبيا يجوب بحار العالم بدون أي إعتراض أو منافسين أقوياء. كما أنه كانت هناك في بريطانيا مساحات شاسعة من الأراضي المشاع التي تم الإستيلاء عليها لمصلحة التاج البريطاني ثم تحويلها الى مراعي للماشية التي تنتج الأصواف الإنجليزية الممتازة  المعروفة بجودتها والتي كانت تعتمد عليها صناعة الغزل والنسيج التي تعتبر بداية الثورة الصناعية والأساس الذي  قامت عليه النهضة الصناعية البريطانية.

الولايات المتحدة عملت على تصفية الإمبراطوريات القوية المحيطة بها مثل الإمبراطورية الإسبانية ومستعمراتها في الفلبين, كوبا والجزر الكاريبية وذلك بإستخدام القوة المسلحة أو بشرائها كما قامت مع لويزيانا الفرنسية و آلاسكا من روسيا القيصرية. كما عملت على إضعاف الإمبراطورية البريطانية من خلال عدة خطوات بدأت منذ القرن التاسع عشر من خلال تقديم قروض ذهبية الى المستشار الألماني بسمارك  الذي نجح في توحيد ألمانيا وبناء قوة عسكرية أوروبية  سوف تكون رقما صعبا في أي مواجهة عسكرية قادمة. ولكن بروسيا التي تعتبر هي نواة الدولة الألمانية الموحدة كانت قوة عسكرية مؤثرة حتى خلال المرحلة التي سبقت توحيد ألمانيا حيث لعب الجيش البروسي دورا مهما في هزيمة نابليون بونابرت سنة ١٨١٥م. الحرب العالمية الأولى(١٩١٤-١٩١٨) كانت نتيجة حتمية لتصاعد قوة ألمانيا إقتصاديا وعسكريا حيث كانت ألمانيا وحلفائها على جهة وبريطانيا وحلفائها في الجهة الأخرى.  الولايات المتحدة لم تتدخل في الحرب حتى سنة ١٩١٧م حيث تأكدت من أن جميع الأطراف قد أنهكتها الحرب اقتصاديا واستنزفت مواردها خصوصا أن الولايات المتحدة كانت لا تقبل إلا الذهب مقابل تزويد بريطانيا وحلفائها بالأسلحة, الذخائر, الأدوية, الوقود وغيرها من المواد الغذائية والمحاصيل.

الحرب العالمية الثانية رسَّخت الهيمنة الأمريكية ومفاهيم مثل القرن الأمريكي وحكومة النظام العالمي الجديد وذلك من خلال إتفاقية بريتون وودز(١٩٤٤) التي فرضت على الدول الأوروبية الدولار عملة احتياط عالمية مقابل مبادلتها بالذهب بسعر ٣٥ دولار/أونصة وكان ذلك ممكنا لأن أكبر احتياطي ذهب في العالم كان في حوزة الولايات المتحدة خصوصا بعد انتقال ماتبقى من ذهب أوروبا الى الخزائن الأمريكية بسبب الحرب أو مقابل البضائع والأسلحة التي كانت الحكومة الأمريكية تبيعها الى دول الحلفاء.

إن سقوط الدولار أو سقوط الولايات المتحدة كما يتوهم الكثيرون لن يكون إلا من خلال حرب عالمية تنهي عصر القوة والهيمنة الأمريكية وذلك من خلال ضرب قوتها البحرية خصوصا حاملات الطائرات أو من خلال انتقال تدريجي  للاستثمارات ورؤوس الأموال الى دولة أخرى يمكن من خلالها تحقيق المزيد من الأرباح والتوسع الرأسمالي بعد أن تصبح السوق الأمريكية عاجزة عن تحقيق ذلك.

ولكن الى أين؟

ربما تكون روسيا أو على الأرجح دولة ذات كثافة سكانية مثل الصين أو الهند ولكن الإمبراطورية الأمريكية معرضة الى السقوط كما سقط غيرها مثل الإمبراطورية الرومانية والفارسية والبريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس وتحكم ربع سكان العالم ٢٥٠ مليون شخص تقريبا.

مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والعافية

النهاية


No comments:

Post a Comment