Flag Counter

Flag Counter

Friday, January 29, 2016

بين الأرجنتين واليونان...عشرة سنين من الدروس - الجزء الأخير

علينا أن نأخذ في عين الإعتبار حين دراسة الحالة الأرجنتينية أو اليونانية على حد سواء أن هناك حالة من التشابه بين البلدين في العديد من المجالات خصوصا أنهما عانيا فترة طويلة من الصراعات والإنقلابات العسكرية تلتها إنتخابات من المفترض أنها ديمقراطية وإنفتاح إقتصادي. في الحالة اليونانية فإنها إنضمام اليونان لمنطقة اليورو قد أدى إلى عقد من الرفاه الإقتصادي ولكنه لم يكن قائما على مبادئ زيادة الإنتاجية والتنيمة الإقتصادية الحقيقية, بل كان قائما على الدين والفقاعات الإقتصادية.
الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم قام بإجراء إصلاحات إقتصادية ولكنها كانت سطحية وشابتها إتهامات بالفساد وتنفيع أقاربه وبيع شركات القطاع العام بأبخس الأسعار للمقربين منه وبدون أي تطوير حقيقي للقطاع الصناعي الذي يمكن على أساسه بناء قاعدة إقتصادية يمكن الإعتماد عليها في أوقات الأزمات الإقتصادية. المشكلة نفسها سوف تتكرر مع اليونان في فترة زمنية لاتزيد عن عشرة سنين. سعر صرف العملة الأرجنتينية(البيزو) والذي كانت مرتبطة بسعر صرف الدولار الأمريكي في ذالك الوقت على الرغم من أن الإقتصاد الأرجنتيني يقل في إنتاجيته عن نظيره الأمريكي بنسبة كبيرة مما جعل أي محاولة للإصلاح الإقتصادي الحقيقي تواجه عقبة إقتصاد إنتاجي ضعيف وعملة قوية. تلك كانت الوصفة التي أدت بالإقتصاد الأرجنتيني للهاوية بعد فترة زمنية لا تزيد عن عشرة سنين, نفس الوصفة التي أدت إلى أزمة الديون السيادية اليونانية ولكن مع إختلاف بسيط هو أن الدراخما تم إستبدالها باليورو. الإقتصاد اليوناني تحول إلى إستهلاكي وزادت نسبة الواردات على حساب الصادرات وإتجهت الكثير من الأموال نحو الإستثمار في الأسهم والبورصة بدون خلق إقتصاد حقيقي قادر على الصمود في اوقات الأزمات الإقتصادية. كما أن إقتصاد الواردات سوف يؤدي إلى إضمحلال القاعدة الصناعية إن وجدت ويقضي على المشاريع والصناعات المحلية. عملة قوية تعني زيادة الواردات على حساب الصادرات وإنخفاض نسبة التضخم والعكس صحيح. صناعة الغزل والنسيج هي أحد الأمثلة في الحالة الأرجنتينية حيث أنه تم نقل العديد من المصانع إلى دول مثل البيرو حيث العمالة الرخيصة وإنخفاض التكاليف وفي الحالة اليونانية فإن عددا من مصانع الغزل والنسيج قد إنتقل إلى تركيا وبلغاريا منذ إنضمام اليونان رسميا إلى منطقة العملة الأوروبية الموحدة(اليورو).
مع إقتراب نهاية الفترة الرئاسية الأولى لكارلوس منعم في الأرجنتين فقد واجه مشكلة إرتفاع مستوى البطالة وتأثيرات أزمة العملة المكسيكية(البيزو) أو مايعرف بإسم أزمة(Tequila). كارلوس منعم فاز بفترة إنتخابية ثانية وفق برنامج يركز على إكمال الإصلاحات الإقتصادية التي بدأها وقيامه بشراء أصوات أعضاء النقابات العمالية عن طريق منح إمتيازات لأعضائها وخصوصا إصدار قانون عمل يعزز دور النقابات ويجعل من الصعب فصل العمال من وظائفهم.
إن التصرفات التي قام بها كارلوس منعم والتي تتعارض مع جوهر برنامجه للإصلاح الإقتصادي خصوصا منح وظائف وإمتيازات لأعضاء في النقابات العمالية لمجلاد إرضاء زعماء تلك النقابات وشراء أصوات إنتخابية سوف لن تشكل مشكلة في حالة تعويم البيزوس ولكن مجال حركته كان ضيقا فسعر صرف العملة الأرجنتينية كانت مرتبطا بالدولار كما أن كارلوس منعم كان معارضا لأية إقتطاعات في الميزانية والقانون العمالي الذي أقره يمنعه بنص القانون من تخفيض الأجور او تسريح العمال. ومع تخصيص أغلب الشركات والمؤسسات الحكومية فلم يكن لدى كارلوس منعم سوى اللجوء للإقتراض من الأسواق الدولية عن طريق إصدار سندات الدين الحكومية.
اليونان عانت من ظروف مماثلة حيث أنه وفي عقب إنضمام اليونان رسميا لمنطقة العملة الأوروبية الموحدة(اليورو) فقد إستفاد اليونانيون من شروط الإقتراض الميسرة ونسب الفائدة المنخفضة بعد عدة عقود من معاناتهم من السياسات المالية المحافظة المرتبطة بنسب الفائدة المرتفعة. تتمتع اليونان بميزة إحتوائها على أحد أعلى نسبة من الأشخاص يمتلكون منازلهم الخاصة بل ويمتلكون أكثر من منزل, منزل للسكن ومنزل أخر للعطلات ومنزل يقومون بتأجيره. كما راجت موضة إمتلاك السيارات الفاخرة في اليونان وخصوصا سيارات البورش التي سجلت اعلى نسبة زيادة في المبيعات في اليونان وسيارات الدفع الرباعي التي تضاعفت مبيعاتها ضعفين بين في الفترة 2002-2006 على الرغم من الإرتفاع القياسي في سعر وقود السيارات حيث تجاوز الحاجز السعري للبرميل 100 دولار.
في سنة 2010 كانت هناك مبالغ وصلت إلى 8 مليارات يورو من قروض السيارات المتعثؤة في اليونان وحدها بما يساوي 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي. مبيعات السيارات سنة 2010 إنخفضت 63% تقريبا عن سنة 2008.
اليونان تعاني معدل ولادات 9.3 لكل ألف نسمة أي أقل من 1.3% التي يتبناها المتفائلون على الرغم من كون أي حضارة تنخفض نسبة مواليدها لتلك النسبة سوف يكون من المستحيل تصحيح تلك النسبة. مانسبته 54% من المواليد الجدد في اليونان يولد في عيادات خاصة حيث تبلغ التكلفة لعملية الولادة الواحدة 1600(يورو) - 11.600(يورو).
المشكلة أن زيادة الإقتراض والإنفاق الحكومي بدا ظاهرا للوضوح مع إقتراب موعد الألعاب الأولمبية التي سوف تقام في العاصمة اليونانية سنة 2004 حيث تم إنفاق مبالغ هائلة على تحسين الطرق والموافق العامة والخدمات خصوصا المنشئات الرياضية في العاصمة اليونانية على الرغم من كون تلك المرافق والتي كلفت عشرات المليارات من اليوروهات تتداعي حاليا بسبب عدم إستخدامها. الفائدة التي عادت على اليونان من إقامة الألعاب الأولمبية في العاصمة أثينا كانت تساوي صفر. الحكومة اليونانية وسلطات العاصمة أثينا كانت في موقف صعب بخصوص التفاوض مع المقاولين على أسعار التعهدات الموكلة إليهم لتحسين البنية التحتية في المدينة خصوصا نظام المواصلات العامة خصوصا مع إقتراب المواعيد النهائية للإنتهاء من إقامة وتحسين البنية التحتية الخاصة بأولمبياد 2004.
الحكومة اليونانية وبالشراكة مع القطاع الخاص قامت بإرساء تعهدات بقيمة 3 مليار دولار لبناء مدارس عامة, مستشفيات ومباني حكومية على الرغم من كون أغلب تلك التعهدات قد تم تمريرها بدون دراسات كافية وأحاطت بها شبهات بالفساد وتنفيع شركات خاصة مقربة من مسؤولين حكوميين ونقابيين.
على الرغم من كل تلك النشاطات والظهور المفاجئ للثروة في اليونان بفضل إنضمامها لمنطقة اليورو والتسهيلات الإئتمانية فقد بقي أغلب النشاط الإقتصادي محصورا في ثلاثة نشاطات رئيسية الزراعة, الشحن خصوصا البحري والسياحة. أما التوجه نحو الإقتصاد الإستهلاكي فهو لايخلق ثروة خصوصا إذا كان يعتمد على الواردات. اليونان كان يجب أن تتحول إلى بلد صناعي لتستفيد من إنضمامها لمنطقة اليورو حيث كان يجب أن يتم توجيه القروض والمنح الدولية في المجالات الإقتصادية الصناعية مماسوف يعود بالفائدة على اليونان ويساهم في نمو إقتصادها وصناعتها. المشكلة التي عانت منها اليونان قبل إنضمامها لمنطقة العملة الأوروبية الموحدة(اليورو) أنها كانت تعتمد على الصادرات الرخيصة بسبب عملتها (الدراخما) والتي كان من الممكن التحكم بقيمتها وإبقائها منخفضة وكذالك على الشحن البحري الأكثر منافسة عالميا من حيث السعر ولكن مع إعتمادها لليورو بدلا من الدراخما فقد عانى كل من القطاعين حيث إرتفعت أسعار الصادرات الزراعية وتكلفة الشحن البحري ولم تعد اليونان مكانا رخيصا للتمتع بالعطلات خصوصا من قبل المواطنين الألمان والفرنسيين.
الأرجنتين إنفجرت فقاعتها الإقتصادية حين تم تخفيض قيمة الريال البرازيلي 30% مما ادى إلى إرتفاع أسعار الصادرات للبرازيل وهي شريكة تجارية رئيسية للأرجنتين. تضخم الدين الحكومي هي المشكلة التي عانت منها الأرجنتين نتيجة لذالك حيث أن ربط سعر صرف البيزو بالدولار أدى إلى جعل قيمة البيزو منفصلة عن الواقع حيث أدت ذالك بالإضافة إلى نسبة بطالة عالية, إرتفاع مستوى الدين والإصلاحات الإقتصادية التي تم إتخاذها في القطاع العام إلى وصول الوضع الإقتصادي في الأرجنتين إلى طريق مسدود.
التصريحات الصادرة عن النخبة المتحكمة بالقرار الأوروبي بأن اليونان ليست كالأرجنتين تلقى سخرية لاذعة من قبل بعضهم فهي بالفعل ليست كالأرجنتين بل أسوأ بكثير. مستوى الدين الحكومي السيادي في اليونان تجاوز 100% من الناتج القومي الإجمالي وذالك والكساد الإقتصادي لايتوقع زواله في القريب العاجل ومستوى الدين العام في إرتفاع حاد. إذا كانت الأرجنتين تعتبر مشكلة إقتصادية فالكثيرون يشبهون مشكلة اليونان بالكارثة التي عندما تقع فلن تترك بلدا لن تطوله عواقبها.
اليونان كالأرجنتين تمتعت بفترة طويلة من الرخاء الإقتصادي بمعدل تضخم منخفض وسياسات إئتمانية متساهلة وشروط إقراض ميسَّرة. وهي كذالك عانت من فترة إضطرابات سياسية وإنقلابات عسكرية وكساد إقتصادي تماما كالأرجنتين. المشكلة أن التقارير عن الأداء الإقتصادي للأرجنتين في الفترة السابقة للكارثة بخمس سنوات كانت تمدح السياسات الإقتصادية المتبعة حيث معدل النمو الإقتصادي مرتفع ومعدل الفائدة منخفض ولكن كل ذالك كان بسبب الإنخداع بالمظاهر السطحية وعدم الخوض في جذور المشكلة تماما كاليونان حيث يرفض الجميع خصوصا في الحكومة اليونانية أن سياساتهم الإقتصادية الفاشلة هي السبب في الأزمة التي تكاد تعصف بالإتحاد الأوروبي. الإنفصال بين السياسات المالية للحكومة الأرجنتينية وبين سياسات مجلس النقد الذي يتحكم بسعر صرف البيزو كانت السبب الرئيسي الذي قاد الأرجنتين لأحد أكبر الكوارث الإقتصادية في طريقها فهل سوف يكون إنضمام اليونان لمنطقة العملة الأوروبية الموحدة(اليورو) السبب في أن تواجه العملة الأوروبية أحد أكبر التحديات في تاريخها؟ هل اليونان هي حصان طروادة الإتحاد الأوروبي؟
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية

No comments:

Post a Comment