Flag Counter

Flag Counter

Thursday, February 11, 2016

في جنة الرأسمالية, لا مكان للملائكة

إن قضية التفاوت في مستوى الدخل القومي بين الدول بعضها البعض وحتى داخل الدول نفسها بين مختلف طبقات المجتمع أصبحت تعد أحد أكثر المشاكل التي يثار النقاش حولها على هامش إنتشار مفاهيم العولمة وتورط المزيد من الدول في إتفاقيات العولمة مثل التجارة الحرة ونافتا وغيرها من الإتفاقيات المماثلة وإن إختلفت التسميات. أحد أهم الأثار السلبية للعولمة وإتفاقيات التجارة الحرة هي أنها السبب المباشر في إزدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم, إزدياد التلوث والإحتباس الحراري, إزدياد مستوى الديون والعجز في الميزانية.
ولكن هل أصبح من الناحية الأخلاقية مقبولا تجاهل تزايد نسبة الإنتحار بين مزارعي القطن الفقراء في الهند وعمال مصانع الشركات الأجنبية في الصين في مقابل أن نستمتع بأخر صيحات الموضة وأجهزة الأيفون وأبل أيباد؟ الأنانية تجتاح العالم وتتجاهل إرتفاع حوادث الإغتصاب في البلدات المكسيكية التي تنتشر فيها مصانع الملابس التي تعمل لحساب الشركات الأجنبية وبالكاد تدفع رواتب الكفاف للعمال. قضية إستغلال العمال الفقراء في بنغلاديش بالكاد يرد خبر من سطر أو سطرين في الصحف والوسائل الإعلامية الأجنبية او حتى العربية التي مازالت مشغولة بقضية شخصين إختلفا على الحكم منذ أكثر من 1300 سنة. أين المنظمات الحقوقية ومنظمات حقوق الإنسان؟ هل من العدل أن يستنفر العالم من أجل حمار تعرض لمعاملة سيئة أو إهمال ويهتم بقطط الشوارع والكلاب الضالة أكثر من إهتمامه بفقراء العالم؟
إن إستفحال نفوذ شركات إنتاج الأغذية المعدلة وراثيا يعتبر أحد ثمرات العولمة والتي لها علاقة بحقوق الملكية وبرائة الإختراع التي تعتبر بقرة حلوب لتلك الشركات التي تبتز المزارعين الفقراء حتى أنها تمنعهم من الإحتفاظ بأي كمية من بذور محصولهم لزراعتها في الموسم القادم وتفرض عليهم شراء كميات جديدة من البذور لزراعتها في كل موسم بشكل منفصل.
هناك عدد كبير من الشركات التي تبيع الأغذية والحبوب والمواد الزراعية المعدلة وراثيا ولكن أشهرها شركة مونسانتو(Monsanto) والتي إكتسبت شهرتها من عدد القضايا المرفوعة ضدها في عدد كبير من المدن والبلدات الأمريكية بسبب التلوث الذي تسببه مصانعها للبيئة وتملصها من التعويضات التي يتوجب على الشركة دفعها للعمل الذي يثبت تضررهم من العمل في منشئات الشركة.
شركات الأغذية المعدلة وراثيا قادرة على لي إستغلال القانون حيث ان عددا من أعضاء مجالس الإدارة كانوا قادرين على تولي مناصب مهمة كقضاة محاكم وحتى في المحكمة العليا في الولايات المختلفة والمحكمة العليا الفيدرالية الأمريكية. لنفترض أن أحدا يقوم على زراعة أرضه بالقمح العضوي بينما جاره يستخدم بذورا معدلة وراثيا من شركة مونسانتو(Monsanto). وكما هو معلوم فإن الرياح تحمل البذور لمسافات طويلة فما بالكم بالأراضي المتجاورة ولكن شركة مونسانتو لن تقتنع بتلك الأسباب وسوف ترسل وكلائها لتقصي الأمر ومحاولة جمع الأدلة حتى بدون أخذ موافقة مالك الأرض ومحاولة مقاضاة المزارعين أمام المحاكم بتهمة التعدي على حقوق برائة الإختراع الخاصة بالشركة وتلك محاولة مكشوفة لإفلاس المزارعين بسبب عدم قدرتهم على تحمل تكاليف عمليات مقاضاة قانونية قد تصل إلى أكثر من نصف مليون دولار بينما تمتلك تلك الشركة وغيرها طواقم من عشرات وربما مئات المحامين المتفرغين لتلك المهمة. الحل أمام الضحايا سوف يكون إما القبول بدفع تعويض للشركة أو التخلي عن الزراعة العضوية وزراعة محاصيل معدلة وراثيا تنتج بذورها تلك الشركة وغيرها.
إرتفاع تكلفة المحاصيل والبذور المعدلة وراثيا والأسمدة التي تنتجها تلك الشركات وإنخفاض العائد الناتج من زراعة القطن المعدل وراثيا في دول مثل الهند قد أدى إلى إفلاس عدد كبير من المزارعين بل وإنتحار 250 ألف مزارع قطن تقريبا في العقد الأخير مع تزايد ملحوظ لحالات الإنتحار فيما يعرف بحزام إنتاج القطن.
الغاية تبرر الوسيلة لشركات إنتاج الأغذية المعدلة وراثيا حيث تعرضت شركة مطاعم عالمية مقرها الرئيسي في الولايات المتحدة تدعى تشيبولتي(Chipotle) لمشكلة تلوث المنتجات التي تستخدمها في أطباقها للتلوث ببكتيريا إيكو لاي(E.Coli). تلك الشركة مشهورة بإستخدامها منتجات غير معدلة وراثيا في أطباقها مما أكسبها الكثير من الأعداء حيث يشتبه المحققون بان الحادث بفعل فاعل وليس وليد الصدفة. الشركة أغلقت كافة مطاعمها البالغة أكثر من 2000 مطعم.
يقال أن الذهب هو المعدن الأكثر قيمة والأكثر لمعانا وقد يكون ذالك غير صحيح من الناحية العملية ولكن هل سأل أحدكم عن ثمن المعاناة التي يدفعها العاملون في مناجم الذهب وفي إستخراجه في الكثير من الدول الأفريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية؟ هل سأل أحدكم عن الثمن الحقيقي لحشوة أسنانه الذهبية او المجوهرات التي تزين اعناق نساء المشاهير أو عن الأسنان الذهبية التي يتفاخر بها البعض؟ ماذا عن عمالة الأطفال في إستخراج المعدن الأصفر في الدول الأفريقية؟ ماذا عن معاناتهم وطفولتهم التي تنتهك في أقسى ظروف العمل والتي هي عبودية حقيقية بمساهمة وموافقة شركات مثل أبل؟
مدينة أنتيروب البلجيكية تعد عاصمة الألماس في العالم كما أن بلجيكا تعد مركزا رئيسيا لتجارة الذهب. عاصمة الألماس مايطلقه عليها تجار الذهب والمعادن الثمينة ولكن إسمها الحقيقي هي مدينة المعاناة لأنه خلف صالات التداول الفخمة وصالات العرض الفارهة التي تقف أمامها سيارات قد يصل ثمن بعضها إلى مليون دولار, هناك المعاناة والألم والإستغلال.
معامل شركة نايكي في مدينة تانجيرانج الأندونيسية تدفع لعمالها 1.25 دولارا يوميا حيث يعيش العمل في ظروف بائسة في قرى لا تتوفر فيها أدنى الشروط الإنسانية والصحية ويعملون 12 ساعة يوميا ستة أيام في الأسبوع وقد يعملون 7 أيام وبدون أي يوم إجازة ولفترة طويلة غير محددة. إن تلك الظروف البائسة لا تقتصر على عمال شركة نايكي بل شركة أديداس,ريباك,بولو ورالف لورين وغيرها الكثير في أندونيسيا وعدد من الدول التي تتواجد فيها مصانع تلك الشركات.
المؤسسات المالية الدولية التي تم إنشائها بموجب إتفاقية بريتون 1944 وخصوصا البنك الدولي وصندق النقد الدولي تساهم بإفقار الدول وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء وخصوصا عبر تقديمها قروضا بفوائد عالية وبشروط مجحفة تتضمن أنشاء مشاريع بنية تحتية قد يكون بعضها غير ضروري أو مبني على تقديرات خاطئة والهدف هو حصد العمولات والسمسرة وعدم إنتفاع السكان المحليين بتلك المشاريع حيث تضيع أموال القروض في الهواء ويبقى على الدول دفع القروض بفوائدها فتضطر لخصخصة مؤسساتها الحيوية والإقتصادية مثل مؤسسات الكهرباء والمياه وخطوط السكك الحديدية وبيعها لمؤسسات أجنبية تفرض أسعارا باهظة على السكان المحليين مقابل خدماتها وإلا قطعتها عنهم فيزداد الفقراء فقرا. تخيلوا أن إحدى شركات النفط قد إتهمت سكان الأدغال في الأكوادور بأنهم تدربوا على أيدي متطرفين إسلاميين لمجرد أن هؤلاء قد إحتجوا على أعمال حفر كانت تلك الشركات تقوم بها في منطقتهم بحماية ميليشيات وعصابات مسلحة وتبين فيما بعد أنها تتم بدون تصريح حكومي.
حتى الدول الغربية تضررت من سياسات العولمة وإتفاقيات التجارة الحرة خصوصا الولايات المتحدة التي زادت نسبة البطالة فيها بسبب رحيل عدد كبير من الشركات للصين وأندونيسيا وفيتنام والمكسيك حيث تقيم مصانعها في تلك الدول التي تدعم الإستثمارات الأجنبية وتتوفر على عمالة ماهرة ورخيصة.
قد يتسائل البعض عن التأثير الذي سوف تحدثه عودة الشركات الأمريكية وإقامة مصانعها في الولايات المتحدة بدلا من الصين أو فيتنام. الإجابة هنا بأن ذالك متعلق بقبول العامل في مصنع الأثاث في الولايات المتحدة أو في أي دولة أوروبية بأجر شهري قد لايتجاوز 150 دولارا أو 1.25 دولار في اليوم كما في بلدان مثل أندونيسيا. إلقاء اللوم على الصين أو على العمالة الرخيصة في بلدان مثل أندونيسيا ليس إلا شماعة يلقي عليها البعض أخطائهم بينما ينشغلون بجمع الأرباح وبحساباتهم المالية التي تتضخم يوما بعد يوم. إن مقارنة الأرباح التي تحصل عليها شركات مثل أبل, أديداس, نايكي وغيرها من الشركات التي تقع مصانعها خارج بلدها الأم بالأجور التي تدفعها لإكتشفنا قدرتها على دفع أجور عادلة بدون رفع أسعار منتجاتها والإستمرار في حصد أرباح معقولة ولكنه الجشع.
القضية لايمكن إختصارها بأحذية نايكي أو ظروف العمل القهرية الصعبة لمجموعة من العمال البائسين في مصانع شركة أبل في الصين أو مصانع الأثاث في فيتنام أو مصانع الألبسة في أندونيسيا أو المكسيك. القضية أكبر من ذالك بكثير حيث يتم إفقار أمم كاملة بفضل سياسات الرأسمالية والعولمة ويتم القضاء على الصناعات المحلية التي لاتكون قادرة على المنافسة لعدم إمتلاكها رأس المال المطلوب.
الإعتماد على العمالة الرخيصة وإستغلال ظروف العمال الفقراء في الدول النامية ليست إلا مبررات حيث أن عودة المصانع المهاجرة للخارج إلى بلدانها الأصلية لن تكون سببا في زيادة نسبة التضخم بل العكس هو الصحيح حيث تنخفض نسبة البطالة وترتفع القوة الشرائية للسكان المحليين وكذالك الناتج المحلي الإجمالي بسبب إرتفاع الإنتاجية ممايؤدي إلى أداء إقتصادي مرتفع وإنخفاض مستوى الفقر.
القضية هي أخلاقية بالدرجة الأولى فإلى متى سوف يستمر أحدهم بدفع الثمن؟
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية


No comments:

Post a Comment