Flag Counter

Flag Counter

Friday, October 6, 2017

الأزمة الأخلاقية للنظام الإقتصادي العالمي

إن النظام الإقتصادي العالمي الذي تمثله الرأسمالية ومفاهيم كالخصخصة وتحرير التجارة وتركيز رؤوس الأموال في يد فئة قليلة من أصحاب البنوك والنخب الإقتصادية قد أدى بالعالم إلى حافة الإنهيار الإقتصادي والأخلاقي. كما أن الكثيرين قد ناقشوا الشق الأول بأدق التفاصيل إلا أن الشق الثاني يتم تجاهله بإستمرار لأنه في الحقيقة يفضح الجانب المظلم من ذالك النظام ويمكن تلخيصه بكلمة اللامساواة التي تمثل الجانب الأكثر ظلاما وبؤسا. إن الإقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي قد فضح ذالك الجانب المظلم بالأرقام والإحصائيات الأكثر دقة والتي لم تترك مجالا أو ثغرة لمنتقديه من المؤمنين بقدسية العدلة الإجتماعية التي يمثلها النظام المالي الحالي. وليكن معلوما أن ملخص مايمكن أن نفهمه من قرائة ذالك الكتاب, "رأس المال في القرن الواحد والعشرين," هو إنتقال الحديث عن سيطرة 1% على حجم يزيد عن 50% من حجم الإقتصاد العالمي ورأس المال القومي في عدد كبير من الدول خصوصا في الولايات المتحدة إلى سيطرة 0.1% على أكثر من نصف حجم رؤوس الأموال وحركة التجارة حول العالم. توماس بيكيتي قد ذكر في كتابه أنه مع مرور الوقت وإزدياد تركيز رؤوس الأموال والثروات في فئة 10% من السكان فإن 1% أصبحت تمتلك أكثر من نسبة 9% المتبقية ومع مرور المزيد من الوقت فإن نسبة 0.1% أصبحت تمتلك ثروات ورؤوس أموال تزيد عن 9.99% وعن باقي نسبة 90% من السكان وذالك ينطبق على مستوى العالم كما أنه ينطبق على المستوى المحلي في أي بلد حول العالم مع إختلافات طفيفة متعلقة بأسباب يطول ذكرها في هاذا الموضوع حيث يمكن الإطلاع عليها بمراجعة الكتاب المذكور لمن لديه جلد وصبر على قرائة مئات الصفحات المليئة بالإحصائيات والأرقام والجداول الإقتصادية.
ولن أكون عادلا إن لم أنوه إلى إنجازات الرأسمالية  فتاريخا مليئ بالإنجازات خصوصا وأنني هنا أتحدث عن رأسمالية مدرسة شيكاغو الإقتصادية(فتيان شيكاغو) والذي يعد الإقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان أحد أهم رموزها ولا أتحدث عن رأسمالية أدم سميث مؤسس علم الإقتصاد السياسي, حيث قدم أفكاره ورؤيته من خلال كتابه الشهير "ثروة الأمم," الذي تمثلت من خلاله بداية ملامح وقواعد النظام الرأسمالي. إن المؤيدين لمدرسة شيكاغو الإقتصادية والتي تمثل المذهب الإقتصادي الرأسمالي-النيوليبرالي يتسابقون في ظهوراتهم في وسائل الإعلام المتنوعة على تكرار الإسطوانة المعتادة أنه يعود الفضل للنظام لإقتصادي-الرأسمالي النيوليبرالي في أن يشبع الفقراء رغيف الخبز وأن ذالك هو قمة الإنجاز. وبإستخدام لغة أكثر حداثة فإن ذالك مايطلق عليه, "حد الكفاف-Subsistence Level," هو حلم الفقراء في الجنة النيوليبرالية, أن لا يموتوا جوعا, البقاء على قيد الحياة هو إنجاز بحد ذاته. ميلتون فريدمان ظهر في فيديو مشهور له وهو يختصر الإعجاز الرأسمالي في نظام التسعير لقلم الرصاص. إن النقاش حول مسألة نظام التسعير(Pricing System) الذي وصفه فريدمان بالسحري ليس هو مايجب التركيز عليه بل العواقب الأخلاقية لذالك النظام, فالإستماع إلى شخص يكيل المديح لأحد أسوأ أوجه الرأسمالية-النيوليبرالية ليس إلا مضيعة للوقت فتحقيق الإستفادة القصوى من الوقت المبذول بهدف التعمق في فهم مدرسة شيكاغو الإقتصادية ومبادئها يجب أن يتركز على الجانب الأخلاقي المتأكل بإستمرار بفضل نظام إقتصادي يعتمد تحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح. إن القائمين على الترويج لتلك النوعية من السياسات الإقتصادية الخالية من أي إعتبارات أخلاقية يشبهون من يقوم بالترويج لدواء أعراضه الجانبية أسوأ وأشد وطأة من المرض الذي يفترض بذالك الدواء علاجه. في عالم الرأسمالية-النيوليبرالية فذالك يدعى فن الدعاية والإعلان أو التسويق.
إن هناك عدد كبير من العواقب الأخلاقية التي يتم تجاهلها للنظام الإقتصادي النيوليبرالي الذي يركز على الربحية الفاحشة وذالك عند أي نقاش حول إنعدام اللامساوة في ظل ذالك النظام. فعلى سبيل المثال, دولة تشيلي خلال فترة حكم الجينرال أوغيستو بينوشيه أو الأرجنتين خلال فترة حكم اللجنة العسكرية التي ترأسها الجينرال جورجي فيديلا(Jorge Rafael Videla) تعدان من أوائل حقول التجارب لمدرسة فتيان شيكاغو الإقتصادية. إن دولة تشيلي حيث أطاح الإنقلاب العسكري برئيسها المنتخب ديمقراطيا سيلفادور الليندي على هامش الحرب الباردة كانت حقل التجارب الأول الذي تم فيه منح ميلتون فريدمان وتلاميذه صلاحيات مطلقة في رسم السياسات الإقتصادية. والحقيقة ان سلفادور الليندي لم يكن له علاقة بالشيوعية والسياسات الإقتصادية التي قام على تطبيقها وكثير من بلدان أمريكا اللاتينية هي أقرب للمدرسة الكينزية منها للنموذج الإقتصادي الشيوعي. ولكن نجاح سياسات سيلفادور الليندي الإقتصادية والشعبية التي إكتسبها بسبب تلك السياسات  قد هدد موقع الولايات المتحدة في القارة اللاتينية حيث  بدأت قطاعات واسعة من الجماهير تتطلع إلى دولة تشيلي كقدوة إقتصادية. كما أن الأرجنتين إتبعت سياسات إقتصادية مماثلة لدولة تشيلي وحققت نجاحا كبيرا في ردم الهوة الإقتصادية وتخفيض مستوى اللامساواة فتم التعامل معها بطريقة مماثلة, إنقلاب عسكري دموي. إن العناصر المشتركة المتوفرة التي تتبين لأي باحث قام على دراسة دولتي تشيلي والأرجنتين وماجرى إثر الإنقلابات العسكرية فيهما سوف لن تدع مجالا للشك التطابق المذهل في السياسات الإقتصادية مع مبادئ النيوليبرالية ومدرسة شيكاغو الإقتصادية خصوصا ما يتعلق بحل النقابات, تخفيض الأجور, خصخصة مؤسسات القطاع العام, زيادة نسبة البطالة بسبب تسريح عشرات الألاف من الموظفين وحالات الإختفاء القسرية التي بلغت حوالي 3 ألاف حالة في تشيلي وضعفها, أي 6 ألاف حالة في الأرجنتين حيث ترفع بعض التقديرات العدد إلى 30 ألف مواطن أرجنتيني.
إن ما سبق وذكرته عن دراسة الحالة في دولتي تشيلي والأرجنتين ينطبق على عدد كبير من البلدان مع بعض الفروق الثانوية كالكوارث الطبيعية التي من الممكن أن تستبدل الإنقلابات العسكرية وذالك وفق ما يسمى عقيدة الصدمة(The Shock Doctrine). ففي دولة سيريلانكا ودول أخرى تعرضت لكارثة التسونامي, حلت منتجعات وفنادق شاطئية فاخرة مكان قرى الصيادين بذريعة خلق منطقة أمنة بعيدة عن الشاطئ رغم أن تلك المنشئات السياحية تقع على الشاطئ مباشرة. بل وتم إستخدام أموال القروض والمساعدات في إنشاء البنية التحتية لتلك المنشئات السياحية الفاخرة بينما يدفع الفقراء فاتورة الديون وفوائدها عبر زيادة الضرائب التي يتم إعفاء الأثرياء منها بذريعة تشجيع الإستثمار والقطاع الخاص. تخيلوا أنه حتى في جزر المالديف, تم إخلاء سكان بعض الجزر بالقوة وإنتزاعهم من بيئتهم الطبيعية بذريعة الخطر الذي يشكله إرتفاع منسوب المياه على سلامتهم بفعل التغير المناخي وفي الوقت نفسه منح عقود تأجير طويلة المدى لتلك الجزر لشركات سياحية من أجل بناء فنادق ومنتجعات فاخرة. إن كل تلك الممارسات يتم تبريرها أخلاقيا بفعل نفس الدعاية المضللة التي تستطيع أن تقنع الكثيرين أن إستخدام الفاكهة والخضار في صناعة الشامبويات ومواد التنظيف عمل أخلاقي بدلا من إطعام الجائعين. ونفس تلك الدعاية المضللة يتم بواسطتها تبرير إتلاف كميات هائلة من المواد الغذائية خصوصا القمح عبر رميها في المحيطات بدلا من تقديمها لبلدان تعاني من المجاعة خصوصا في أفريقيا. سكان الشواطئ في سيريلانكا تم حرمانهم من مصدر رزقهم الوحيد فإنضم كثير منهم لمتمردي التاميل فالموت برصاص الجيش أو الموت جوعا سيان بالنسبة لهم. أما سكان جزر المالديف الذين تم إنتزاعهم من اماكن سكنوها وأجدادهم من قبلهم, فقد تم نقلهم لمناطق أخرى بدون بنية تحتية وتفتقر لأبسط مقومات الحياة.
إن الرأسمالية بشكل عام والنيوليبرالية بشكل خاص ليست من الطبيعة البشرية وتعريض مفهوم العلاقات الإنسانية لمبدأ الربح والخسارة تصرف غير مقبول ولايمكن تبريره من الناحية الأخلاقية. إن إنتشار الأمراض والمجاعة والفقر وإنعدام اللامساواة في العالم أمر لا يمكن القبول به بعد إنكشاف الدعاية المضللة بأنه مبدأ "دعه يعمل, دعه يمر" أو "laissez faire" لأدم سميث سوف يقوم على خلق حالة إقتصادية يتم فيها توزيع فوائض الأرباح على قطاعات واسعة من السكان بدلا من إحتكارها من قبل الأقلية منهم. فكيف نقوم على تبرير المجاعة في دول أفريقية عديدة وكميات مهولة من الحبوب تكفي لإصابة سكان أفريقيا بالتخمة يلقى بها في البحر أو كميات بألاف الأطنان من الخضار والفواكه يتم إتلافها بدلا التبرع بها للفقراء وذالك بذريعة المحافظة على مستويات سعرية معينة. أو كيف يمكن تبرير الإستمرار بالدعاية والترويج لخرافة الوقود الحيوي أو (الإيثانول-85) على الرغم من إستهلاك زراعة المحاصيل المستخدمة في إنتاج ذالك الوقود لمساحات شاسعة من الأراضي التي كانت يمكن إستخدام تلك المحاصيل لإطعام الجائعين حول العالم. إن المشكلة التي يعاني منها النظام الرأسمالي ليست متعلقة بالتوزيع أو الإنتاج بل هي مشكلة أخلاقية أولا وأخيرا. إن الأزمات الإقتصادية التي يعاني منها ذالك النظام المهترئ تبطل عمل مبدأ "laissez faire" فهي لا تعمل ومع ذالك يتم السماح لها بالمرور لتخلق أزمات إقتصادية اكبر من سابقاتها وذالك ليس بمسؤولية أدم سميث حيث تمت إسائة إستخدام كتاباته كحائط صد في وجة مزاعم بأن النيوليبرالية تتألف من مجموعة مبادئ قادرة على خلق حالة إقتصادية أقرب للمثالية. تخيلوا أن جواهر لا نهرو ذكر في كتابه, "لمحات من تاريخ العالم", أنه في الفترة بين يونيو\1931 و فبراير\1933 أحرق 14 مليون كيس من البن بما يعادل 132 رطلا للكيس الواحد, مليار وثمانمائة مليون رطل من القهوة بما يزيد عن حاجة كافة سكان العالم لو منحنا كل واحد منهم رطلا من القهوة. وذكر أيضا أن الأزمة الإقتصادية سنة 1929-1933 أدت إلى تضرر القطاع الزراعي وإفلاس المزارعين الذين أصبحوا جياعا وبلا مأوى بعد أن تمت مصادرة أراضيهم ومنازلهم بسبب عدم قدرتهم على سداد قروضهم نتيجة إنخفاض أسعار المحاصيل الزراعية بما لا يكفي حتى لسداد إيجار الأراضي التي يزرعونها. إن كل ما سبق وذكرته هو نتيجة حتمية لإقتصاد بدون أخلاق حيث يتم تقديم التبريرات لمبادئ إقتصادية لا إنسانية تعمل وفق مبدأ الربح الفاحش ونظرية الصدمة بينما في الوقت نفسه تستخدم مبادئ "laissez faire", "دعه يعمل, دعه يمر" وتقسيم العمل في محاولة لخلق صورة إنسانية لنظام إقتصادي جوهره لا إنساني.

النهاية

No comments:

Post a Comment