الولايات المتحدة تحكم العالم من خلال القوة العسكرية والأهم الدولار الأمريكي الذي فرضته على العالم عملة احتياط عالمية من خلال إتفاقية بريتون وودز ١٩٤٤. ولكن أحد أهم شروط تلك الاتفاقية هو ربط سعر الدولار مع الذهب ٣٥ دولار/أونصة وكان ذلك ممكنا لأن الولايات المتحدة كان لديها ٨٠% من احتياطي الذهب العالمي سواء الذي كان مملوكا للحكومة الأمريكية من خلال قانون مصادرة الذهب الذي أصدره الرئيس فرانكلين روزفلت سنة ١٩٣٣ أو احتياطيات البنوك المركزية الأوروبية الذي أرسلته الى الولايات المتحدة حتى لا تستولي عليه الجيوش الألمانية التي كانت تتقدم في أوروبا. الدول الأوروبية قبلت مرغمة إتفاقية بريتون وودز بسبب حاجتها الى الولايات المتحدة خصوصا خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا والتي كانت تبلغ قيمتها ١٣ مليار دولار وكانت أدوات الولايات المتحدة في إجبار الدول الأوروبية على إدمان الدولار.
ولكن كما يقول المثل الشعبي "دوام الحال من المحال" والولايات المتحدة بدأت خلال فترة الستينيات ومع تولي رئيس جديد ليندون جونسون منصبه في طبع الدولار بوتيرة متسارعة من أجل تغطية نفقات حرب فيتنام والبرامج الاجتماعية التي أعلنت عنها الحكومة الأمريكية تحت مسمى (المسدس والزبدة-Guns & Butter). الدول الأوروبية بدأت في الشعور بالقلق من زيادة كمية الدولارات المطبوعة وأن احتياطي الذهب لدى الحكومة الأمريكية لا يغطي كمية الدولارات المتداولة. إحتياطي الذهب الأمريكي كان يبلغ ٤٠% من كمية العملة الأمريكية المطبوعة ثم بدأ في التقلص بعد مطالبة الدول الأوروبية في تطبيق مبادلة الدولار مقابل الذهب كما في بنود إتفاقية بريتون وودز.
فرنسا شارل ديغول أطلقت الشرارة الأولى وأرسلت سفن حربية الى مدينة نيويورك التي عادت بكميات ضخمة من السبائك الذهبية ثم تبعتها دول أوروبية أخرى. الرئيس نيكسون دق ناقوس الخطر عندما وصلته تقارير أنه مع إستمرار مبادلة الدولار مقابل الذهب فإن الحكومة الأمريكية سوف تفقد كامل الاحتياطي الذهبي خلال فترة قصيرة جدا وأن من ٤٠% ذهب/عملة تقلص الى ١٠% ذهب/عملة(*). الرئيس نيكسون ألقى خطابا مشهورا سنة ١٩٧١ عرف بأنه (صدمة نيكسون) وأعلن تعليق مبادلة الدولار مقابل الذهب ومجموعة إجراءات اقتصادية أخرى ومازال ذلك (التعليق) مستمرا الى يومنا هذا رغم أنه من المفترض إجراء مؤقت.
الولايات المتحدة أعادت ترتيب البيت المالي العالمي بعد صدمة نيكسون حيث قامت بتعويم الدولار أمام العملات الأخرى في أسواق الفوركس وقامت بتنظيم ذلك من خلال اتفاقية جامايكا(١٩٧٦) واتفاقية بلازا سنة (١٩٨٥). ولكن الدولار بعد تعويمه أصبح عمليا مرتبطا بالهواء وكان لابد تقوية مركزه أمام العملات الأخرى وكانت اتفاقية البترودولار مع المملكة العربية السعودية سنة ١٩٧٥.
مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر كان عراب الإتفاقية والتي ملخصها أن السعودية تبيع النفط مقابل الدولار الأمريكي حصريا والولايات المتحدة تضمن حمايتها من الأخطار الخارجية والداخلية. إن بنود الاتفاقية تعتبر مجرد تكهنات حيث ليس هناك بنود مكتوبة يمكن للصحفيين أو الخبراء الإطلاع عليها وحتى فترة سريان الاتفاقية ٥٠ عاما التي انتهت أو شارفت على النهاية سنة ٢٠٢٥ وليس هناك أخبار عن تجديدها.
إتفاقية سنة ١٩٧٥ أدت الى ظهور مصطلح البترودولار حيث إرتفعت أسعار النفط الى ٤٠٠% وكانت السعودية تقوم بإستخدام الفائض من أموال النفط في شراء سندات الخزانة الأمريكية وإيداع عائدات النفط في البنوك الأمريكية كما نصت إتفاقية ١٩٧٥. الشائعات كانت أن السعودية تمتلك تريليون دولار سندات وزارة الخزانة ولكن الحكومة الأمريكية أعلنت رسميا سنة ٢٠١٦ أنها بلغت ١١٦.٨ مليار دولار ولكنها وصلت سنة ٢٠٢٤ الى ١٤٢.٨ مليار دولار. الأخبار التي نشرتها صحف سعودية شبه رسمية مثل موقع العربية على الإنترنت وصحيفة المدينة تناقضها أخبار أخرى أن السعودية بدأت في التخلص من سندات وزارة الخزانة وانها باعت في يونيو/٢٠٢٣ ماقيمته ٣ مليار دولار وأن حيازتها من السندات الأمريكية انخفض الى ١٠٨.١ مليار دولار.
السعودية لديها دوافع قوية تجعل التخلص من سنداتها الأمريكية مسألة أمن قومي واقتصادي. قانون جاستا وقانون نوبك يهددان الإستثمارات السعودية في الولايات المتحدة. الولايات المتحدة صادرت أصول البنك المركزي الروسي في الخارج وفرضت عقوبات اقتصادية بسبب الحرب الأوكرانية. السعودية تراقب ذلك وهناك أيضا الصين التي بدأت في التخلص من سندات الدين الأمريكي التي في حوزتها. السعودية خطت خطوة الى الأمام في الانضمام الى منظمة البريكس وهناك أحاديث هنا وهناك عن بيع النفط السعودية الى الصين مقابل اليوان.
الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي, ولديها الكثير تفعله وأدوات عديدة من الممكن أن تستخدمها وتجعل حياة خصومها غير مريحة. الولايات المتحدة من الممكن أن تدبر إنقلابا في السعودية أو تتخلى عن حليفتها بعد أن ورطتها في مستنقع اليمن. السعودية رفضت مؤخرا زيادة إنتاج النفط مما يؤدي الى انخفاض سعره وهي خطوة في الحرب الإقتصادية الأمريكية ضد روسيا حيث أعلنت الولايات المتحدة من خلال تسريبات صحفية عدم رضاها عن ذلك. السعودية تقترب من الصين و بوتيرة متسارعة وأن الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي لا يقوم بزيارات خارجية إلا نادرا قام بزيارة السعودية سنة ٢٠٢٢ والسعودية انضمت الى منظمة البريكس خلال إجتماع قازان ٢٠٢٤.
مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment