يمكن تشبيه الإرتفاع التصاعدي لمستوى الدين في الدول المتقدمة بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص بسباق السيارات السريعة بل شديد السرعة وحيث يمكن تقسيم الدين إلى خاص وعام. الدين الخاص يشمل قروض شراء المنازل والأموال المسحوبة على بطاقات الإئتمان حيث يكون لدى الأسرة الأمريكية الواحدة مامعدله ١٣ بطاقة إئتمان وقرض عقاري بمبلغ ١٢٠ ألف دولار على الأقل. ذالك النوع من الدين تضاعف من ٦٨٠ مليار سنة ١٩٧٤ إلى ١٤ تريليون سنة ٢٠٠٨.
الدين العام أو الدين القومي وهو الدين الحكومي ويشمل سندات الخزانة التي تصدرها الحكومة الأمريكية حيث تضاعف من ٣ تريليون سنة ١٩٩٠ إلى أكثر من ١٠ تريليون سنة ٢٠٠٨ والتضاعف مستمر لدرجة أن المسؤولين عن ساعة الدين القومي الشهيرة في نيويورك يخططون لإضافة خانات رقمية أخرى لإستيعاب الزيادة.
أحد أسباب تلك الزيادة في الدين العام هو الأزمة المالية التي عصفت بوول ستريت وكانت بدايتها أو سببها الرئيسي إنهيار سوق الرهون العقارية حيث كانت هناك نتائج كارثية منها فقدان ماقيمته ٥٠ تريليون دولار من الأصول وأكبر إعلان إفلاس في العالم ليمان برثرز(Lehman Brothers) ووضع اليد من قبل الحكومة الأمريكية على أكبر شركات الإقراض العقاري, إختفاء البنوك الإستثمارية وحزمة الحوافر التي قدمتها الحكومة الأمريكية في محاولة لإنقاذ مايمكن إنقاذه حيث أدى ذالك إلى زيادة مستوى ذالك الدين.
إذا رغبنا بمعرفة أصل تلك المشكلة وسبب ذالك الإنهيار المالي سنة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ فعلينا معرفة أن السبب الرئيسي في ذالك هو توفر السيولة وسبب ذالك إزدياد حركة التجارة ورأس المال نتيجة فترة طويلة من النمو الإقتصادي مما جعل الإقتراض متوفرا وبشروط جدا متهاودة حيث أصبح بين سنتي ٢٠٠٦-٢٠٠٧ بإستطاعة دول تعاني أوضاعا مضطربة مثل الإكوادور وشركات متعثرة مثل ديمي كرايزلر أن تقترض بسعر يماثل سعر الإقتراض للحكومة الأمريكية. الإكوادور أعلنت إفلاسها سنة ٢٠٠٩ وشركة ديمي كرايزلر في أمريكا تم إبقائها مستمرة بفضل حزمة قروض حكومية. إزدياد حركة التجارة ورأس المالكان لها أثار إيجابية بالنسبة للدول النامية حتى في ذروة الأزمة المالية ٢٠٠٧-٢٠٠٨ وذالك بسبب قدرتها التنافسية في مختلف المجالات كما انها ساهمت في تخفيض نسبة التضخم, الصين ببضائعها الرخيصة والهند بخدماتها منخفضة الثمن حيث من المعتاد إذا إتصلت بقسم خدمة العملاء في إحدى الشركات الأمريكية أن يجيب مكالمتك شخص بلكنة أسيوية من الهند.
إن الأزمات الإقتصادية لها القدرة على نزع الريادة والشرعية من الولايات المتحدة إقتصاديا بدرجة متفاوتة ولكن أزمة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ كانت مختلفة لأنها برزت من مركز الرأسمالية وقلبها النابض في وول ستريت نيويورك. وقد يظن البعض أنها نهاية الرأسمالية وأنها مقدمة لإنهيار الولايات المتحدة ولكنهم مخطئون في ظنهم. إن تلك الأزمة تسببت في الإنتهاء من نوع معين من الهيمنة الإقتصادية للولايات المتحدة ولكنها سرعت في دخول الولايات المتحدة إلى عالم تتقاسم فيه الهيمنة عدة دول من بينها الولايات المتحدة.
في ذالك العالم الذي تتقاسم الهيمنة فيه مجموعة دول وليس دولة واحدة, فقد توقع جولدن ساشز أن يجاوز مجموع إجمالي الناتج المحلي لأربعة من دول البريكس(البرازيل, الصين, روسيا, الهند) إجمالي الناتج المحلي لدول (G7) سنة ٢٠٣٩مؤسس شركة إنتل أندي جروف حذر سنة ٢٠٠٥ من أن أمريكا تسير بخطى متسارعة نحو مصير مماثل لأوروبا, المشكلة أن لا أحد يريد أن يستمع.
أمريكا تواجه بلدان تزداد إزدهارا كما أنها خسرت صناعات رئيسية, شعبها توقف عن الإدخار, حكومتها مدينة بإزدياد للبنوك المركزية الأسيوية. الشركات الأمريكية الباحثة عن الأرباح إتجهت مع زيادة النفقات لبلدان أسيوية حيث العمالة الرخيصة والمدربة والنتيجة فقدان ألاف الوظائف في أمريكا, العولمة تضرب في عقر دارها وعقر دار الرأسمالية.
هناك من يجادل ويقول أنظروا إلى معدلات النمو. متوسط معدل النمو في أمريكا ٢.٥% وخلال العقدين الأخيرين كان ٢.٣% بينما في اليابان معدل النمو ١.٢% ولكن السؤال هو هل ذالك النمو هو حقيقي؟
الإجابة على هاذا السؤال قد تكون في مواضع أخرى ولا مجال الأن لتفصيل ذالك ولكن هناك وقائع على الأرض تؤكد ولو مرحليا إستمرار الهيمنة الأمريكية فسيطرة الولايات المتحدة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن واضحة كما أن القوات المسلحة الأمريكية هي العماد الرئيسي لقوات حلف الناتو وسيطرة الولايات المتحدة على المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد هي واضحة لا لبس فيها حيث تعد تلك المؤسسات أدوات لفرض السياسات المالية للولايات المتحدة على الدول الأخرى. الولايات المتحدة مقارنة بالدول الأخرى تعد ٥% من عدد السكان قد ساهمت بنسبة ٢٠%-٣٠% من إجمالي الناتج المحلي العالمي خلال ١٢٥ سنة الأخيرة.
كل تلك الحقائق لايمكن تجاهلها والسؤال بالنسبة للبعض ليس عن إنهيار الولايات المتحدة كنفوذ إقتصادي أو سياسي أو عسكري بل عن المدى الذي سوف تتكيف فيه وتندمج في عالم يحوي الكثير من القوى الصاعدة, عالم متعدد الأقطاب؟
يجادل طرف أن الولايات المتحدة سوف تضعف وتنهار قريبا بينما يجادل أخرون أنها سوف تبقى مهيمنة ومتسيدة في عالم متعدد الأقطاب. البعض يرى أن الولايات المتحدة أصبحت معتدة بنفسها أكثر من الالزم فهي الدولة الوحيدة في العالم التي تصدر تقريرا سنويا عن حقوق الإنسان في الدول الأخرى بينما لا يشمل التقرير إنتهاكات الولايات المتحدة نفسها لحقوق الإنسان.
بالنسبة للكثيرين الولايات المتحدة أصبحت عبارة عن فقاعة من الهيمنة والتسلط والقوة. فقاعة غير قابلة اللمس من قبل الكثيرين.
النقطة الأولى التي يحتج بها المراهنون على إنهيار الولايات المتحدة هي أن ذالك الإنهيار سوف يبدأ بإنهيار قيمة الدولار وإنخفاض قيمته بشكل كبير حيث أنه رمز للقوة والهيمنة الأمريكية على العالم. النقطة الثانية هي أن الشركات الأمريكية العابرة للقارات تسيطر على العالم.
سوف أناقش النقطتين بإختصار فبالنسبة للأولى فليس من مصلحة الكثيرين نظريا إنهيار الدولار الأمريكي على الأقل في الوقت الحالي بدون توفر البديل وهو ليس متوفرا. إنهيار الدولار الأمريكي يتطلب فك إرتباط مبيعات النفط بالدولار وفك إرتباط العملات بالدولار وهو شيئ ليس بالحاصل في وقت قريب. كما أنه يتطلب التوقف عن إستخدام الدولار كعملة رئيسية لمخزون إحتياطي العملات الأجنبية وهو أيضا ليس بالأمر الحاصل قريبا. قد يكون من مصلحة الولايات المتحدة إنهيار الدولار ولكن في الوقت الذي تختاره ويكون مناسبا لها والعكس بالنسبة لمنافسيها.
أما بالنسبة للنقطة الثانية فهي أن تلك الشركات العابرة للقارات قد تكون مقراتها الرئيسية تقع في أمريكا ولكنها نظريا شركات متعددة الجنسيات برأسمال متعدد الجنسيات. شركة مثل كوكاكولا لديها فروع في ٢٠٦ بلدا و٨٠% من أرباحها ناتجة عن عملياتها خارج الأراضي الأمريكية.
أختلف مع ذالك الرأي لأن العقلية التي تقوم بتسيير الأعمال اليومية لتلك الشركات هي العقلية الإدارية والمالية الأمريكية ووفق النهج والنسق الأمريكي وكون مقراتها الرئيسية تقع في الولايات المتحدة فهاذا ليس له علاقة بكونها أمريكية أو متعددة الجنسيات. من يحدد ذالك التصنيف هو العقلية المالية والإدارية التي تحكمها وهي أمريكية قلبا وقالبا, فهل لو تم إفتتاح شركة برأسمال أمريكي في البرازيل فهل سوف تقوم الشركة بتسيرر أعمالها وفق العقلية البرازيلية؟
الولايات المتحدة تقدم النصائح للأخرين حول العديد من الأمور مثل قبول تحديات الإقتصاد العالمي, تعويم أسعار صرف العملة وتطوير صناعات جديدة. الولايات المتحدة قامت بنقل خبراتها للكثير من الدول مما شجع تلك الدول على الإنفتاح ولكن في الكثير من الحالات كانت النتيجة عكسية. الولايات المتحدة نفسها في وقتنا الحالي تشعر بالتردد إزاء تلك السياسات نفسها التي ساهمت بنقلها لبلدان أخرى. في القرن الواحد والعشرين الولايات المتحدة نجحت في عولمة العالم ولكنها نفسها بقيت بدون عولمة تزداد إنغلاقا بينما البلدان الأخرى تزداد إنفتاحا.
شكرا لوقتكم مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية.
النهاية
No comments:
Post a Comment