إن إرتفاع أسعار النفط بتلك الطريقة الجنونية يزيد من مشاكل دول الإتحاد الأوروبي على وجه الخصوص حيث أنه في إيطاليا والتي إتبعت حكومتها سياسة تقشفية أهملت الجانب التاريخي والثقافي حيث إضمحلت آثار عريقة بسبب نقص الصيانة لإنعدام الميزانية المخصصة لذالك. اليونان والتي يبلغ عدد سكانها ١١ مليون نسمة بلغ نصيب الفرد منهم من المديونية ٣٠ ألف يورو. تلك المديونية التي راكمتها الحكومات اليونانية سنة بعد سنة لكي تقوم بتمويل جهاز حكومي متضخم برواتبه وإمتيازاته ويوم دوام قصير وكذالك إمتيازات التقاعد الخيالية.
سوف نتكلم بإختصار عن مجموعة دول أوروبية وكذالك أمريكا لنرى كم بلغ حجم المشكلة. إيرلندا نسبة العجز مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي ثلث الناتج ٣٣.٣%, إسبانيا ٦%, اليونان ١٥% في سنة ٢٠٠٩ وإنخفضت إلى ٦.٦% سنة ٢٠١٢ وقس على ذالك بلدان أخرى في أوروبا. المشكلة أن الإتحاد الأوروبي وضع من شروط العضوية أن لا تزيد نسبة العجز مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي عن ٣% مما يعني أن أغلبية دول الإتحاد الأوروبي مخالفة لذالك الشرط.
في دولة متقدمة وصناعية مثل اليابان فإن الدين العام يبلغ أكثر من ضعفي الناتج المحلي الإجمالي بينما يتوقع أنه في نهاية سنة ٢٠١٣ فسوف يبلغ ما نسبته ١٩٠% بالنسبة لدولة مثل اليونان بينما إيطاليا إقتربت أو تكاد من وصول مستوى الدين العام إلى مجموع ضعفي الناتج المحلي الإجمالي. إن من شروط إنضمام الدول للإتحاد الأوروبي هو أن لا تبلغ نسبة الدين العامة أكثر من ٦٠% من الناتج الإجمالي المحلي وهاذا يخلق مشكلة لأغلب دول الإتحاد الأوروبي.
حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما تواجه عجزا أكثر من تريليون دولار ونسبة الدين العام التي وصلت إلى ٧٠% من الناتج الإجمالي المحلي حيث أصبحت ضعف ماكانت عليه في سنوات سابقة.
إن خدمة الدين العام قد تتطلب الكثير من الجهد والقرارات الصعبة. وقد يظن البعض أن المسألة لن تمس حياة المواطن العادي ولذالك لا يلقي الكثير من المواطنين في الدول التي تعاني من مشكلة الدين العام بالا للبيانات التي تتحدث عن المشكلة وكذالك للبرامج والأخبار الإقتصادية ومحاولة توعية أنفسهم وتثقيفها من تلك الناحية. وبالمرور على بعض البلدان التي تعاني من تلك المشكلة المتفاقمة فسوف نجد أن الآثار المترتبة على خدمة الدين العام تمس حياة المواطن العادي بشكل أو بأخر حيث أنه في أمريكا فإن ذالك قد يعني إقتطاعات من ميزانية البرنامج الصحي أو أموالا أقل من الحكومة الفيدرالية يتم إرسالها إلى الولايات مما يعني إقتطاعات جراحية ومؤلمة لقطاعات حيوية مثل التعليم وخدمات البلدية مثل النظافة وإزالة الثلوج في فصل الشتاء وكذالك أعداد دوريات الشرطة وأعداد أفراد القوات الشرطية والأمنية. في بريطانيا فإن خدمة الدين العام قد تعني رفع رسوم الجامعات الحكومية مما قد تسبب في أسوأ الإضطرابات التي كان وقودها الطلاب المحتجون على تلك القرارات. في بلدان عديد تسببت الأزمة الناتجة عن إرتفاع الدين العام وخدمته إلى سقوط حكومات فمثلا رئيس الوزراء الإيطالي المعروف ليس بإنجازاته الإقتصادية بل بعلاقاته النسائية سيلفيو بيرلسكوني قد إستقال سنة ٢٠١١ لعجزه عن مواجهة تلك الأزمة وهو الذي كان مسيطرا بقوة على الحياة السياسية الإيطالية لمدة ١٧ عاما ولم تنجح عشرات الفضائح الأخلاقية والمالية وشبهات حول علاقته مع المافيا في إزاحته من كرسي الحكم.
كل ذالك له علاقة بإرتفاع وإنخفاض أسعار النفط حيث أنه في حال كون الفاتورة النفطية العالمية لا تزيد عن ٨٠٠ مليار دولار فإن إقتصاد الدول المستوردة للنفط يكون في إنتعاش بينما يعاني إقتصاد الدول المصدرة التي يكون إعتمادها أو دخلها الرئيسي متأتي من تصدير النفط وليس عندها قاعدة دخل متنوعة تسمح لها بمواجهة التقلبات السعرية في أسواق النفط. المشكلة أن الفاتورة النفطية العالمية الآن تبلغ حوالي ٣ تريليون دولار وهي مرشحة للإزدياد يوما بعد يوم.
الحكومات سوف تلجأ في حال ظهور عجز في الميزانية لإستخدام أدوات مالية منها إصدار سندات حكومية بفائدة تتراوح نسبتها معتمدة على مجموعة عوامل وتكون تلك السندات مستحقة بعد ٥ سنين أو ١٠ سنين أو ٣٠ سنة. إن من يشتري تلك السندات يكون واضعا ثقته في إمكانية تحقيق تلك الدولة لنمو إقتصادي يمكنها من دفع المستحقات التي عليها وهي في تلك الحالة تمثل قيمة تلك السندات. المشكلة هي أن إستمرار أسعار النفط في الإرتفاع من غير بادرة أمل بإنخفاضها إلى مستويات معقولة فإن ذالك سوف يكون مؤثرا بشكل كبير على النمو الإقتصادي في بلد لا على التعيين مما يؤدي مع تراكم ذالك التباطئ إلى ظهور فجوات إقتصادية مما يعني صعوبة إيفاء الدولة بإلتزاماتها المالية وقد تصل الأمور إلى العجز وإعلان الإفلاس.
إن لجوء الحكومات للإقتراض وإصدار السندات كأحد الأدوات المالية لمواجهة عجز الميزانية وإرتفاع أقساط خدمة الدين العام مرتبط إرتباط وثيق بإنخفاض أو إرتفاع نسبة الدين العام مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي فكلما إنخفض فرق النسبة بين الدين العام والناتج الإجمالي المحلي في دولة معينة, إنخفض سعر الفائدة على القروض التي تطلبها تلك الدولة والسندات التي تصدرها وذالك لإرتفاع ثقة المقرضين بتلك الدولة ومتانة إقتصادها. إن ذالك بالمفاهيم الإقتصادية يسمى التصنيف الإئتماني والذي يعني بالإنجليزية(Credit Rating) وتصدره مؤسسات متخصصة ولكن قراراتها قد لا تكون بعيدة عن حسابات سياسية ولكي نعرف مدى حساسية تخفيض التصنيف الإئتماني لدولة معينة مثل أمريكا فوف يكلفها ذالك عشرات المليارات من الدولارات لإرتفاع تكلفة الإقتراض نتيجة إرتفاع مستوى الفائدة على القروض والسندات الحكومية.
لنأخذ سيناريو لدولة مثل فنزويلا ليس على علاقة ودية مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حيث يكفي تخفيض التصنيف الإئتماني من قبل تلك المؤسسات إلى رفع كلفة الإقتراض نتيجة رفع سعر الفائدة وإنخفاض الثقة بالسندات الحكومية التي تصدرها الدولة مما يؤدي إلى التأثير على مشاريع التنمية والبنية التحتية والخدمات الإجتماعية نتيجة تخصيص نسبة أكبر من عائدات الدولة لخدمة الدين العام.
فيما سبق وقبل إنضمام أي دولة للإتحاد الأوروبي فإن كيفية التصرف في تلك الحالات كانت بتعويم سعر العملة مما يعني خفض قيمتها وبالتالي تشجيع قطاعات مهمة مثل السياحة والتي تعد مصدرا رئيسيا للعملة الصعبة لدولة مثل اليونان وتعني أيضا تشجيع التصدير والذي يعني أيضا مصدرا للعملة الصعبة مما يساعد على التعافي الإقتصادي. الصين مثلا متهمة بالتلاعب بسعر اليوان من أجل إبقاء قيمته منخفضة (تعويم اليوان) لكونها بلدا مصدرا ومن مصلحتها المحافظة على قيمة منخفضة نوعا ما لعملتها الوطنية (اليوان).
بالنسبة للدول التي تشكل الإتحاد الأوروبي فإن ذالك الخيار لا يمكن التفكير فيه لأنها تخلت عن عملتها الوطنية مقابل قوة اليورو الإقتصادية أو هكذا كان يظن والحل في تلك الحالة قد يكون بإشهار إفلاسها (Default) وهو ما يسعى الإتحاد الأوروبي لمحاولة منعه بشتى الوسائل من تقديم المساعدات الإقتصادية وحزمات لإنعاش الإقتصاد وقروض في دول مثل اليونان والتي لها عشرات السوابق في إعلان إفلاسها على مدى أكثر من ٢٠٠ سنة, هي تمثل خاصرة ضعيفة نوعا ما بالنسبة للإتحاد الأوروبي وعبئ على دوله مثل ألمانيا التي يمثل إقتصادها محركا رئيسيا لدول الإتحاد وهاذا الجانب السلبي ولكن هناك أيضا جانب إيجابي فعلينا أن لا ننسى أن إقتصاد ألمانيا قائم على الصناعة والتصدير وإبقاء قيمة صرف اليورو تحت السيطرة يعد من مصلحة ألمانيا. إن هناك تماثل بين ألمانيا والصين من ناحية الأسباب التي تدفع البلدين للحفاظ على قيمة سعر صرف العملة تحت السيطرة, البلدان يعتمدان على الصناعة والتصدير. إن الحالة اليونانية داخل الإتحاد الأوروبي ينطبق عليها ما ينطبق على أي مشكلة إقتصادية من ناحية أن لها جانب سلبي وجانب إيجابي. جانبها السلبي يتمثل في مساعدات إقتصادية من أموال دافع الضرائب الألماني بينما جانبها الإيجابي أن نفس دافع الضرائب الألماني يمكنه قضاء إجازة رخيصة في اليونان ويمكن ضمان إستمراره في عمله لوجود طلب على تصدير المنتجات الألمانية.
المشاعر والعواطف ليس لها وجود في السياسة وألمانيا ودول الإتحاد الأوروبي الأقدر إقتصاديا على مساعدة غيرها لا تفعل شيئا بدون أن تكون متأكدة من أنه يعود عليها بالنفع والإهتمام بموضوع اليونان ومحاولة مساعدة إقتصادها المتعثر والحيلولة دون إعلان إفلاسها وإنسحابها بالتالي من الإتحاد الأوروبي له علاقة بأن إنسحاب اليونان سوف يترك تأثيرا كحجر الدومينو وسوف تتبع اليونان دول أخرى مثل البرتغال وبالتالي ينهار الإتحاد الأوروبي ويصبح على دول بعينها تحمل التبعات المالية والإقتصادية لذالك الإنهيار.
إن إنسحاب البرتغال من الإتحاد الأوروبي يعني أنها سوف تستعيد التعامل بعملتها الوطنية (الأسكودو) وبالتالي تستطيع التحكم فيها وتعويمها مما سوف يؤثر بالإيجاب على السياحة حيث يتأتى نسبة كبيرة من دخل الدولة. وعلى فكرة فإن تعويم سعر العملة لدولة معينة هو من ضمن شروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في حال تقديم قروض لدولة معينة وهو له نواحي إيجابية كما ذكرت سابقا وأيضا له نواحي سلبية منها في هذه الحالة تأثر حركة الإستيراد بالسلب في حال كون تلك الدولة لا تمتلك قاعدة صناعية قوية وتعتمد على الإستيراد وأيضا بيع أصول الدولة وشركاتها الخاسرة بل وأحيانا في تصرف لا أجد له تفسيرا بيع أصول الدولة الرابحة والتي دخل للدولة ملايين الدولارات سنويا, وذالك بأبخس الأسعار كون سعر العملة الوطنية منخفض مقارنة بأسعار عملات الدول التي تتأتى منها الشركات المشترية للأصول والشركات المعروضة للبيع بموجب قانون الخصخصة.
إذا قررنا وضع نقطة على السطر بعد كل ذالك الكم من المعلومات والتوقف قليلا لنناقش سؤالا ملخصه: وهل سوف يتم السماح للدول المنسحبة من الإتحاد الأوروبي بالبقاء ضمن منطقة التجارة الحرة؟
في حالة إنسحاب اليونان من الإتحاد الأووبي والعودة لتداول عملتها الوطنية (الدراخما) وتعويم سعر صرفها كحل لمشاكلها الإقتصادية ومحاولة خلق فرص عمل حيث بلغت نسبة البطالة مستويات قياسية وأصبت هناك مخاوف من ضياع جيل كامل من الشباب اليوناني, فإن سعر صرف الدراخما سوف يكون منخفضا ٤٠% مقارنة باليورو وهي نسبة لن تسمح لليونان بالبقاء ضمن منطقة التجار الحرة لأنه في تلك الحالة سوف تستقبل المصانع اليونانية طلبات من شركات في ألمانيا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى مما يعني خلق فرص عمل في اليونان على حساب تلك الدول وزيادة نسبة البطالة فيها مقابل إنخفاضها في اليونان وهو شيئ لن تسمح به بالتأكيد دول مثل ألمانيا تعاني أصلا من مستويات بطالة تزداد إرتفاعا.
قد يظن البعض أنه في حال إعلان اليونان لإفلاسها فإن القطاع المصرفي الألماني هو فقط المتضرر أو القطاع المصرفي الفرنسي الذي يملك حصصا مؤثرة في بنوك يونانية. إن تداخل الأنظمة المصرفية مع بعضها البعض سوف يرسل موجات إرتدادية في حال إنهيار أحدها مما سوف يؤثر على الآخرين بطريقة أو بأخرى تماما كأزمة إنهيار سوق قروض الرهن العقاري في أمريكا ٢٠٠٧/٢٠٠٨. إن البنوك الفرنسية هي الأكثر غرقا في مستنقع اليونان ومشاكلها المالية ولكن التداخل والتشابك في الأنظمة المالية والمصرفية يستحيل معه أن لا تتأثر البنوك الألمانية والتي وإن كانت لا تمتلك حصصا مؤثرة في القطاع المصرفي اليوناني فإنها تمتلك علاقات عمل وحصصا في بنوك ومؤسسات مالية ومصرفية فرنسية.
وإلى الأن مازال السجال مستمرا بين دول عديدة بخصوص مستقبل الإتحاد الأوروبي وإستمراريته في ظل إرتفاع الديون السيادية لدول عديدة وأداء إقتصادي ضعيف لدول أخرى. بريطانيا مثلا حافظت على حالة خاصة بها داخل الإتحاد الأوروبي حيث مازالت محتفظة بالجنيه الإسترليني ولم تتبنى اليورو كبقية دول الإتحاد بالإضافة إلى عدم تبنيها للكثير من سياسات الإتحاد خصوصا في مجال الهجرة وإقتراب موسم الإنتخابات حيث هناك أصوات تنادى بالإنفصال عن الإتحاد الأوروبي أو تبني سياسات هلامية من قبل الحكومة في حال بقائها داخل الإتحاد.
النهاية وشكرا لوقتكم وتفاعلكم
No comments:
Post a Comment