إن أحد أكثر المسائل تعقيدا التي تعاني منها الأديان بشكل عام هي تقديس النصوص المكتوبة بوصفها وحيا وإلهاما إلهيا. وتلك المشكلة تعاني منها جميع الأديان وخصوصا الأديان الثلاثة الرئيسية: اليهودية باعتبارها أقدمها, المسيحية بإعتبارها الأكثر إثارة للجدل والإسلام باعتباره خاتم الأديان على الأقل بالنسبة لأتباعه. إن صراع أتباع تلك الأديان ونقاشاتهم الفكرية وحوارتهم تنصب أغلبها حول صحة ودقة النصوص الدينية وتحتل العقائد بشكل عام مرتبة ثانوية في الحوار والنقاش إذا عليك إثبات صحة النص ومصداقيته أولا قبل النقاش حول محتواه. بروفيسور مقارنات الأديان والعهد الجديد في جامعة شمال كارولاينا بارت إيرمان ذكر في إحدى المقابلات أن اليهود والمسلمين نقلوا نصوص كتبهم المقدسة بأمانة بينما المسيحيون لم يفعلوا. كما ذكر أنه لا يوجد الكثير من البحث العلمي في مجال النقد النصي لمخطوطات القرآن(الكريم) بسبب تطابقها. الدكتور إيرمان تحدث عن أمانة النقل وأن المجهود البشرية قادر على إنتاج نسخ متماثلة من مخطوطات الكتب المقدسة ونصوصها ولكنه لم يتحدث في تلك المقابلة عن محتوى النصوص, التوراة والإنجيل, ونقده لما تحتويه من تناقضات واختلافات فتلك مسألة فصلها في عدد كبير من الكتب التي أصدرها وتمت ترجمة بعضها للغة العربية.
مشكلة المسلمين مع نصوصهم المكتوبة لا تكمن في القرآن الكريم فهو كتاب غير قابل للتعديل والتحريف تكفل الله بحفظه ومتفق على نصه في جميع الدول العربية والإسلامية. ولكن المشكلة تكمن في كتب الأحاديث التي يصفها الكثير من المسلمين بأنها من كتب الصحاح ويقدسونها ويرفعونها لمكانة القرآن الكريم خصوصا كتابي صحيح البخاري وصحيح مسلم. إن درجة التقديس وصلت لتكفير وإصدار الحكم بردة من ينكر حديثا ورد ذكره في أحد الكتابين باعتباره ينكر وحيا إليها وذالك مستوى كارثي من تصعيد درجة الصراع مع المخالفين في الرأي. والسبب أن كتب في الصحاح في النهاية وصلت إلينا بفضل مجهود بشري سوف يرتكب من الأخطاء قليلها أو كثيرها ولكنه ليس معصوما. كما أن علوم الحديث مثل علم الجرح والتعديل وغيرها من المباحث المتعلقة بتدقيق الحديث سندا ومتنا ليست إلا من أعمال البشر وليس الوحي. أحد المشاكل التي يعاني منها المسلمون ليست محصورة في تقديس كتب الصحاح بل في النظرة المزدوجة عند نقاشهم مع أتباع الأديان الأخرى خصوصا المسيحية واليهودية حول صحة كتبهم المقدسة ومطالبتهم بالمخطوطات الأصلية بيد المؤلفين أنفسهم على الرغم من عدم وجود المخطوطات الأصلية بخط يد المؤلف في حالة كتابي صحيح البخاري ومسلم وغيرها من كاتب الصحاح.
أما بالنسبة لمشكلة المسيحيين مع كتبهم المقدسة تكمن في حجم التناقضات والأخطاء في النصوص المتوفرة بين أيدينا مما يصيب الكثير منهم بالحرج والحيرة الذي تنتقل إلى قساوستهم وكنائسهم العاجزين عن تقديم إجابات واضحة لأتباعهم. وأنا هنا أتحدث عن النصوص المكتوبة مثل إنجيل الملك جيمس والنسخة الدولية الجديدة(NIV) ولا أتحدث عن المخطوطات التي تعتبر دراستها ومقارنتها بما فيها من اختلافات علما قائما بحد ذاته. ويكمن الفرق بين القرآن والإنجيل بشكل رئيسي في طريقة النقل حيث لا يمكن توفر صفة التواتر وصحة السند في الحالة الثانية لأن العهد الجديد بشكل عام والأناجيل الأربعة بشكل خاص لم يتم تدوينها إلا في عصور متأخرة عن التاريخ الأصلي المفترض لتأليفها أو بعد فترة ليست بسيطة من تناقلها كتراث شفوي لا سند له إلا من الذاكرة. بينما القرآن كان يتم كتابته مباشرة كلمة بكلمة وآية بآية مباشرة بعد تنزله على الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك من قبل ما يعرفون بكتاب الوحي وكانت تتم مراجعة ما تتم تدوينه أولا بأول. ولكن كتب الحديث التي يصفها المسلمون بالصحاح يجري في حكمها ما يجري في حكم كتاب الأناجيل والكتاب المقدس بشكل عام حيث لم يبدأ تدوينها إلى بعد فترة طويلة جدا من وفاة الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم وتم تناقلها بين المسلمين باعتبارها تراثا شفويا أخذوه إذا ماوافق القرآن وتركوه في حال مخالفته. ولم تبدأ مرحلة تقديس تلك الأحاديث بإعتبار صحتها ودقتها أمرا من المسلَمات إلى حين تم تدوينها في كتب سميت بأسماء أصحابها مع إعتبار البخاري ومسلم ادقها وأكثر مصداقية.
إن في النصوص المكتوبة التي قام أتباع الأديان بإسباغ صفة القداسة عليها مع مرور الوقت أوصافا مخجلة للذات الإلهية والأنبياء ونصوصا لا يقبلها العلم نولا المنطق. في كتب البخاري ومسلم هناك حديث موسى والحجر وهناك نصوص تتناقض مع القرآن الكريم كما ذكر الدكتور عدنان إبراهيم في إحدى خطبه. وفي التوراة هناك نصوص مثل إشعياء 7:20 حيث يحلق الرب شعره بموس مستأجرة(فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَحْلِقُ السَّيِّدُ بِمُوسَى مُسْتَأْجَرَةٍ فِي عَبْرِ النَّهْرِ، بِمَلِكِ أَشُّورَ، الرَّأْسَ وَشَعْرَ الرِّجْلَيْنِ، وَتَنْزِعُ اللِّحْيَةَ أَيْضًا.) وفي إنجيل القديس لوقا 19:27, يأمر يسوع المسيح بذبح جميع أعدائه الذين لا يؤمنون به قدامه(أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي.) إن نص لوقا 19:27 هو أحد النصوص التي يتهرب الكتاب والمؤرخون والمسيحيون اليمينيون المحافظون ممن ينتقدون العنف في الإسلام من الإجابة عليها. ولكن ذالك النص ليس هو النص الوحيد الذي يحرض على العنف والقتل وسفك الدماء في الكتاب المقدس وعدم إقتباس تلك النصوص من قبل أولئك المسيحيين اليمينيين له علاقة بمحاولة إخفاء جذور العنف في عقيدتهم المتطرفة, فهناك مئات النصوص والتي في ختام الموضوع سوف أذكر بعضها: نص هوشع 13:16, يأمر الرب بعقاب مدينة السامرة التي تمردت عليه وذالك بقتل الأطفال وشق بطون النساء الحوامل(تُجَازَى السَّامِرَةُ لأَنَّهَا قَدْ تَمَرَّدَتْ عَلَى إِلهِهَا. بِالسَّيْفِ يَسْقُطُونَ. تُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ، وَالْحَوَامِلُ تُشَقُّ,) وفي سفر التثنية, يأمر الرب بالإبادة الجماعية لسبعة شعوب كاملة(تثنية 7: 2-1) وبعدم إبقاء نسمة ما منها(تثنية 20: 17-16) وبإستباحة المدن التي تقوم بالتسليم وإستعباد أهلها(تثنية 20:11). لا يمكن مقارنة تلك النصوص بتلك التي في القرآن الكريم ولا بوصايا الرسول عليه الصلاة والسلام لقادة جيوشه وسراياه وكذلك وصية أبو بكر لجيوش المسلمين بقتال المحاربين وعدم التخريب وقطع الشجر والتعرض لمن يعملون في أرضهم وفي حقولهم وأماكن العبادة مثل صوامع النساك والزهاد.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment