قامت أوروبا بالإستثمار بالبنية التحتية خصوصا المواصلات العامة حيث لايحتاج المواطنون الأوروبيون حتى ممن يملكون سيارة خاصة بهم لإستخدامها إلا في الحالات الضرورية لإمتلاكهم خيارات نقل عام متنوعة. على العكس من أوروبا فقد قامت الولايات المتحدة على وجه الخصوص بالإستثمار في الطرق السريعة حيث تم صرف مليارات من أموال دافعي الضرائب لربط المدن الأمريكية بشبكة واسعة من الطرق بداية من سنة 1956 في عهد الرئيس الأمريكي أيزنهاور حيث تمت تسمية المشروع بقانون الطرق الخارجية(Interstate Highway Act) والذي تمحور حول بناء 41 ألف ميل من الطرق السريعة وربط أي مدينة عدد سكانها 50 ألف أو يزيد بتلك الشبكة من الطرق بالإضافة إلى توسيع عدد من الطرق القائمة. الشخص الذي قام بتقديم ذالك المشروع للرئيس الأمريكي كان ليوكس.د.كلاي(Lucius D Clay) أحد أعضاء مجلس إدارة شركة جنرال موتورز للسيارات.
في سنة 2008 قام الأمريكيون بقيادة سياراتهم مسافة 83 مليون ميل في الربع الأول من تلك السنة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2007 كما زادت نسبة ركوب وسائط النقل العامة المتوفرة بنسبة 5%. يخطئ الكثيرون حين يظنون أن رفع أسعار النفط سوف يؤدي بمواطني الدول المتأثرة إلى التخلي عن سياراتهم بشكل جماعي بل سوف يتم ترشيد المسافة المقطوعة وزيادة إستخدام وسائل النقل العامة. المشكلة هي عدم جاهزية البنحية التحتية في أغلب مدن أمريكا الشمالية وبلدان أخرى مثل أستراليا ونيوزيلندا للدورة الإقتصادية القادمة التي سوف يرتفع فيها سعر وقود السيارات ويكلف ملئ خزان سيارة عادية 100 دولار أمريكي بما سوف يجبر الكثير من المواطنين على إستخدام الباصات وخطوط المترو والسكة الحديدية.
تعتبر مدينة ديترويت الأمريكية في نظر الكثيرين مدينة صناعة السيارات في العالم كما أنها في فترة العشرينيات كانت إحدى المدن التي تمتلك أفضل بنية تحتية في مجال النقل في العالم مؤلفة خصوصا من عربات النقل الكهربائية(Trolleybus) . في الفترة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 فإن وسائط النقل العامة في مدينة ديترويت كانت تسجل حركة نقل مواطنين بنسبة إستخدام مليون مرة في اليوم. في العشرة سنين اللاحقة فإن ذالك النظام الذي كان يعتبر من أشهر مظاهر تلك المدينة قد تمت إحالته للتقاعد.
في سنة 1920 فقد كان العالم يبدو, وحتى أقرب الصورة, كما لو ان سعر برميل النفط 100 دولار, مواطن من بين عشرة في الولايات المتحدة يمتلكون سيارة و90% من التنقلات تتم بواسطة وسائط النقل العام. الكثيرون كانوا يظنون أن مبيعات السيارات كانت متدنية بسبب تشبع الأسواق وشركات صناعة السيارات تخسر أموالا طائلة. الحل كان بإيجاد أسواق جديدة أو طريقة جديدة لتصريف الإنتاج فشركة جينرال موتورز مثلا تصنع السيارات والباصات وليس القطارات والعربات الكهربائية. لم تكن شركة جينرال موتورز هي الوحيدة المستفيدة من زيادة مبيعات السيارات بل شركة نفط كاليفورنيا(Standard Oil of California) وشركة إطارات السيارات فايرستون(Firestone) كانتا أيضا من أكبر المستفيدين.
البداية كانت سنة 1930 وإستمرت حتى سنة 1956 حين أقر الرئيس الأمريكي قانون (Interstate Highway Act). الحرب العالمية الثانية كانت سببا في إيقاف أو تأجيل عملية إحلال وإستبدال وسائل النقل العامة خصوصا عربات(Trolleybus) بالسيارات والباصات بسبب الحاجة إلى الوقود لظروف الحرب مما لايسمح بتوفير ذالك الكم الهائل للإستهلاك المدني. قام تحالف مؤلف من الشركات الثلاثة بإنشاء شركة خطوط المدينة الوطنية(National City Lines) سنة 1936 حيث تفرعت عنها شركة أخرى هي شركة خطوط المدينة الباسيفيكية(Pacific City Lines) وشركة أخرى تدعى شركة الخطوط المدنية الأمريكية(American City Lines) سنة 1983. تلك الشركات الثلاثة قامت وعبر طرق نظامية أو ملتوية وبإستخدام الرشوة وأساليب الضغط المختلفة بشراء خطوط العربات الكهربائية وشركات السكة الحديدية في أكثر من 1000 بلدية(مدينة) أمريكية حيث تم تحويلها لإستخدام المركبات التي تعمل على الوقود السائل. تلك العملية إمتدت حتى كندا ولكن بوتير أقل سرعة حيث لاتزال بعض خطوط العربات الكهربائية تعمل في مدن مثل تورنتو والتي تعتبر عاصمة ولاية أونتاريو الكندية. الحكومة الأمريكية قامت بدورها مساندة لتحالف الشركات الثلاثي حيث قامت بفرض ضريبة مجهود حربي على تذاكر السكة الحديدية والعربات الكهربائية(Trolleybus).
تلك الأساليب الإحتيالية أثارت إنتباه هيئة قضاة فيدرالية سنة 1949 والتي أدانت شركة جينرال موتورز والشركات المتحالفة معها بالإحتيال والتلاعب بخصوص إيقاف شركة خطوط السكة الحديدية في مدينة لوس أنجلوس عن العمل كما أن لجنة فرعية للتحقيق في التلاعب والإحتكار أدانت سنة 1974 شركة جينرال موتورز بخصوص الإستيلاء على خطوط العربات الكهربائية بغرض إيقافها عن العمل. المشكلة أنه في سنة 1974 لم يتبقى خطوط عربات كهربائية عاملة في الولايات المتحدة حيث تم بيعها للمكسيك والتي على الرغم من تقادمها قامت بالعمل بكل كفائة حتى تم تدميرها في الزلزال الذي ضرب العاصمة المكسيكية سنة 1985.
هناك في الولايات المتحدة حوالي 57 مليون شخص يشكلون نصف العدد الإجمالي من الأمريكيين ممن يمتلكون سيارة واحدة على الأقل في نفس الوقت الذي يتمكنون فيه من إستخدام وسائل النقل العامة ومن بين هؤلاء 57 مليون يتوقع أن يستجيب 12 مليون منهم لإرتفاع أسعار الوقود بمحاولة إيجاد بدائل كالمشي للعمل الذي يستغرق في المتوسط 30 دقيقة أو إستخدام وسائل المواصلات العامة المتوفرة. كما أنه هناك 24 مليون أسرة لايزيد دخلها السنوي عن 25 ألف دولار وتمتلك سيارة واحدة على الأقل بينما هناك 10 ملايين أسرة من أصل 25 مليون وتمتلك سيارتين. من يستطيع شراء أنواع السيارات الفارهة التي تتميز بالشراهة في إستهلاك الوقود مثل الفيراري واللمبرجيني لن يشكل إرتفاع أسعار الوقود لديه أي مشكلة بينما تلك الأسر التي دخلها لايزيد عن 25 ألف دولار سنويا فهي التي سوف تشكل الفرق, أسرة من أصل خمسة سوف تجد نفسها مضطرة إلى ركن سيارتها أو أحدهما في حال إمتلاك إثنتين. بالنسبة لتلك الأسر فإن المسألة هي إما شراء الطعام أو مستلزمات الحياة الضرورية أو ملئ خزان وقود السيارة. في سنة 2008 فإن فاتورة إنفاق تلك الأسر على الوقود قد تجاوزت إنفاقها على شراء حاجيات الطعام والشراب. ولكن على الرغم من محاولة الكثيرين تقليص الأميال المقطوعة بواسطة مركباتهم بين سنتي 2004-2008 بسبب إرتفاع أسعار الوقود, فإن المبيعات قد إزدادت خمسة أضعاف.
إن القدرة على إستخدام وسائل النقل العامة في الولايات المتحدة تتوزع على النحو التالي: 75% في المدن, 50% في الضواحي و25% في الأرياف. في الضواحي حيث الكثافة السكانية قليلة فإن الجدوى الإقتصادية من إستخدام قطار الأنفاق منخفضة وحتى باصات النقل العامة لا تعد مجدية حيث تنعدم الخدمات مثل مراكز التسوق والدوائر الحكومية.
سوف يكون من الصعب على الكثيرين التكيف مع الإرتفاع المتوقع في أسعار الوقود فحتى من يسكنون في المدن الكبرى ولديهم القدرة على إستخدام وسائل النقل العامة أو الذهاب في رحلة قصيرة سيرا على الأقدام لشراء الحليب مثلا من بقالة مجاورة فإنه سوف يكون من الصعب التخلي كليا عن السيارة والتي قد تكون مربحة حين إستخدامها في شراء البقالة الشهرية للمنزل أو إصطحاب الأطفال للنزهة.
إن وصول أسعار الوقود لمبلغ 7 دولارات للجالون سوف يجعلها تتجاوز بسهولة مستوى الأسعار أثناء أزمة الحظر النفطي في السبعينيات. سوف يجبر ذالك الكثيرين على إعادة التفكير في نمط الحياة الذي سوف يتبعونة وإعادة ترتيب أولوياتهم.
سنة 1982 كانت علامة فارقة في تاريخ صناعة السيارات حيث كانت أخر سنة تكون المبيعات منخفضة عن مستوى 10 ملايين سيارة في الولايات المتحدة. مشكلة شركات السيارات والتي تتخذ من مدينة ديترويت مركزا لعملياتها هي بيست إنخفاض عدد المبيعات السنوية تحت مستوى 10 ملايين سيارة سنويا خصوصا في حالة كان الإقتصاد يمر بفترة ركود, بل عدم عودة المستوى الطبيعي للمبيعات بعد التعافي الإقتصادي والتي في الكثير من الحالات تكون متلازمة مع إرتفاع في أسعار الوقود.
وكما نعلم فإنه كل سنة هناك عدد من السيارات سوف تحال للتقاعد إما بسبب إنتهاء عمرها الإفتراضي وتكلفة الصيانة المرتفعة أو بسبب كونها من الأنواع التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود. حاليا فإن ذالك المعدل يبلغ في الولايات المتحدة 13 مليون سيارة تقريبا بما يعني أنه هناك 13 مليون سيارة جديدة سوف يتم شرائها كل سنة ولكن ماذا لو كان عدد السيارات المباعة 10 مليون مقابل 13 مليون محالة للتقاعد؟ إن ذالك يعني 3 ملايين سيارة أقل تسير على الطرقات كل سنة وهناك 3 ملايين شخص قرروا التخلي عن وجود السيارة في حياتهم والتكيف مع الواقع الجديد.
ليس كافة الشركات السيارات سوف تتأثر بإنخفاض المبيعات بنفس النسبة حيث تعد شركات مثل دايملر كرايسلر والتي تقوم بتصنيع الشاحنات الخفيفة من بين أكثرها تأثرا بإنخفاض مبيعات قد يصل إلى 70%.
ليست الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي تنخفض فيه مبيعات السيارات بنسبة قد تصل إلى 41%, ففي بريطانيا إنخفضت الطلبات المقدمة لتسجيل السيارات الجديدة بنسبة وصلت إلى 22% ونفس الشيئ في أستراليا. في كندا إنخفضت مبيعات السيارات بنسبة 28%, اليابان 32%-35% وألمانيا 14%.
صناعة السيارات تمر حاليا بأزمة جعلت بعض الشركات على حافة الإفلاس إثر الأزمة الإقتصادية العالمية 2007-2008 حيث تم تقديم حزمة دعم تبلغ 25 مليار دولار في الولايات المتحدة, 40 مليار يورو لشركات صناعة السيارات الأوروبية. أما في كندا فقد قامت شركات السيارات بالتهديد لنقل مصانعها وألاف الوظائف للخارج في حال لم تحصل على حزمة إنقاذ حكومية مماثلة والتي بلغت 4 مليارات دولار. وفي نهاية سنة 2008 أعطى الكونجرس الأمريكي موافقته على منح شركتي جينرال موتورز وكراسيلر 17 مليار دولار لمنع إنهيار الشركتين.
النفط يكون رخيصا عندما يكون الشخص قادرا على تعبئة خزان سيارته بالوقود بدون أن يضطر لإعادة ترتيب ميزانيته الشهرية. المستهلكون يجدون أنفسهم غير مضطرين للتخلي عن شاحناتهم وسياراتهم التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود بدون مواجهة مستوى أسعار 7 دولار للجالون. وفي النهاية حتى مع توجهات الحكومة الأمريكية لجعل حزمات المساعدة لشركات السيارات مرتبطة بإنتاج مركبات أكثر كفائة في إستهلاك الوقود, فإن المستهلك في النهاية هو من يقرر نوعية السيارات التي يرغب في شرائها.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment