لم تكد تمضي شهور قليلة على التصعيد غير المسبوق ضد العراق في ديسمير 1998, حتى قامت الولايات المتحدة وبريطانيا ببدء حملة جوية ضد يوغسلافيا في مارس 1999 فيما نظر إليه البعض على أنه حملة غربية ضد حلفاء سابقين لما يسمى الإتحاد السوفياتي. السبب الرئيسي للحرب كما ذكر رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير هي منع حدوث كارثة إنسانية والحد من قدرة الرئيس اليوغسلافي على شن الحروب ضد السكان المدنيين الأبرياء. الحرب التي قامت على شعار طنان وهو الإنسانية حيث تلقت تأييدا من الصحافة البريطانية الليبرالية كالجارديان والإنديبيندنت حيث تم إستغلال ذالك الشعار في حملة إعلامية في الفترة التي سبقت الحرب. إن المزاعم أن القصف الجوي سوف يمنع الكارثة الإنسانية كانت عبارة عن أكاذيب ومحض خيال حيث تناقضت التصريحات بين المسؤولين البريطانيين أنفسهم وحتى الأمريكيين الذين زعموا 100 ألف ضحية ممن في عمر مناسب لحمل السلاح بينما زعم البريطانيون 10 ألاف ضحية. سكرتير وزارة الخارجية البريطانية(روبن كوك-Robin Cook) زعم سقوط 2000 شخص ضحية التطهير العرقي قبل بدء الحملة الجوية مما يعني أنه سقط 8000 ضحية جديدة إثر تلك الحملة, أربعة أضعاف عدد الضحايا. عدد المهجرين داخليا كان 200 ألف شخص و70 ألف لاجئ بينما قام النظام الصربي بعد بدء القصف بحملة أدت إلى طرد 850 شخص من مواطني كوسوفو إلى مقدونيا وألبانيا. الحملة بدأت في 20 مارس 1999 وذالك إثر بداية القصف ومغادرة مراقبي منظمة الأمن والتعاون حيث قامت قوات الجيش الصربي وميليشيات شبه عسكرية بتهديد وطرد السكان الكوسوفيين في كل قرية كانوا يمرون بها ومن منزل إلى منزل.
تقرير ألماني بتاريخ فبراير 1999 بخصوص الأوضاع في كوسوفو ذكر أن أغلب الضحايا سقطوا نتيجة صراع بين الجيش اليوغسلافي ومايسمى جيش تحرير كوسوفو(KLA) وليس نتيجة عمليات تطهير عرقي وطائفي, كما ذكر أن الحياة في المدن الرئيسية عادت إلى طبيعتها.
تصريحات مسؤولين أخرين في الأمم المتحدة أيدت التقرير الألماني. المبعوث الأمريكي الخاص جيري داينستبير(Jiri Dienstbier) ومساعدة مسؤول بعثة المراقبة في كوسوفو الدبلوماسية الأمريكية نورما براون(Norma Brown) ذكروا أن الضحايا هم نتيجة قتال بين الجيش والمتمردين وأن هناك كارثة إنسانية سوف تحدث في حال بدأ الناتو حملة القصف. الحملة الجوية نجحت في إجبار الرئيس الصربي ميلودان ميلوسيفيتش على سحب قواته من كوسوفو ولكنها لم تنجح في منع حصول كارثة إنسانية.
الأجهزة الأمنية الألمانية قامت بالترويج لمزاعم عملية تطهير عرقي أطلق عليها إسم(Horseshoe - حدوة الحصان) كان الرئيس اليوغسلافي ينوي القيام بها وتبين فيما بعد أنها وهمية وتم إستنساخها من ملفات الأجهزة الأمنية البلغارية وبدون أي دليل إثبات. العملية Horseshoe تم الكشف عنها بعد أسبوعين من بدء القصف وتم الترويج لها إعلاميا وإستخدامها كذريعة بأن القصف كان واقعا لا محالة.
السؤال هو هل كانت حملة القصف الجوي التي كان الناتو ينوي القيام بها من المتوقع أنها سوف توقف عمليات الإبادة المزعومة التي يقوم بها نظام الرئيس اليوغسلافي؟ ألا يذكركم ذالك بالمزاعم إمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل والمزاعم بإستخدام الجيش السوري للسلاح الكيميائي في معاركه ضد تنظيم القاعدة في سوريا؟
الحملة كانت لأهداف سياسية لها علاقة بتوسع الناتو في دول كانت تدور ضمن فلك الإتحاد السوفياتي وصفقات أسلحة مستقبلية بعشرات المليارات من الدولارات وإستفادة الشركات الغربية من الفرص التي توفرها سياسات النيو-ليبرالية التي سوف يتم إجبار بعض الدول على إتباعها ولكنها لن توقف الصرب والكوسوفيين من الإقتتال ولن توقف عمليات التطهير العرقي المتبادلة. ذالك كان رأي مجموعة واسعة من المسؤولين في وزارة الدفاع البريطانية والأمريكية الذين حذروا الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وقائد قوات الناتو ويسلي كلارك كما كان ذالك رأي مدير المخابرات المركزية الأمريكية جورج تينيت. ويسلي كلارك ذكر أن الحملة الجوية لم تكن مصممة من الأساس لوقف عمليات التطهير العرقي التي كان النظام اليوغسلافي يقوم بها.
الحرب على يوغسلافيا كانت أشبه بعملية قرصنة تصرف فيها البعض كزعماء مافيا حيث أنها تم تنفيذها بدون موافقة الأمم المتحدة وبالمخالفة من المادة خمسة من معاهدة تأسيس الناتو التي ذكرت إستخدام القوة في مجال الدفاع عن النفس. حتى محكمة العدل الدولية فشلت في تحقيق العدالة في القضية التي رفعتها إليها يوغسلافيا ضد مجموعة من دول الناتو بإعتبار الحرب غير قانونية حيث أن تطبيق العدالة في تلك المحكمة إنتقائي كما في حالة السودان.
الهجمات الجوية تسببت بمقتل 500 مدني صربي حيث تم قصف أهداف مدنية مثل محطة التلفزيون والراديو الصربية وجسور تقع في طرق مواصلات مزدحمة ومحطات طاقة ومنشئات خدمية وبنية تحتية. بعض تلك الهجمات تم إعتباره كجرائم حرب خصوصا الهجوم على محطة التلفاز والإذاعة الصربية حيث تم إعتباره هجوما مقصودا على هدف مدني بحت سقط ضحيته 16 مدنيا قتلى. وكالعادة لم يكلف الناتو نفسه أو أي من الدول المنضوية تحت لوائه بالقيام بأي تحقيق في تلك الجرائم والتي أدانتها مؤسسات مثل هيومان رايتس واتش.
المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغسلافيا وجهت إتهامات للقائد الصربي ميلان ماتريك(Milan Martic) بإستخدام أسلحة محرمة دوليا مثل القنابل العنقودية ضد أهداف في مدينة زغرب بينما تم تجاهل إستخدام الناتو لقنابل عنقودية ضد مطار مدينة نيس(NIS) الصربية حيث أنه وبسبب خطأ في حساب سرعة الرياح فقد أخطأت القنابل أهدافها وسقطت في وسط المدينة حيث تقع مجموعة مباني عامة وسوق تجاري مزدحم. الولايات المتحدة وهولندا توقفت عن إستخدام القنابل العنقودية بعد تلك الحادثة. مامجموعه 90-150 من الضحايا سقطوا بسبب القنابل العنقودية والتي شكلت بالنسبة لبريطانيا 50% من القنابل التي ألقتها طائراتها في يوغسلافيا كما أنه هناك الألاف القنابل العنقودية التي لم تنفجر ولم تتم إزالتها.
المشكلة أنه في المفاوضات التي سبقت الحرب والتي جرت في (Rambouillet) وهي منطقة تقع خارج العاصمة الفرنسية حيث كانت من شروط الناتو قبول يوغسلافيا بإحتلال عسكري من قبل الناتو لكوسوفو وحق غير مشروط لمرور أليات وقوات الناتو في طول يوغسلافيا وعرضها مما أمن للناتو رفضا يوغسلافيا وذريعة أخرى لشن الحرب. كما أن الولايات المتحدة وبريطانيا رفضتا كل المبادرات لوقف العمليات العسكرية منها مبادرة ألمانية من بنودها إنسحاب القوات اليوغسلافية من كوسوفو ومبادرة يوغسلافية بالقبول تواجد قوات من الأمم المتحدة في كوسوفو.
القمة الهزلية للأخطاء أنه بينما يزعم الناتو أنهم قاموا بمنع كارثة إنسانية وإبادة جماعية من قبل نظام ميلودان ميلوسيفيتش بحق سكان كوسوفو فإن حملتهم الجوية تسببت في نزوح أكثر من 200 ألف مواطن صربي بنهاية سنة 2000 وأغلب النازحين كانوا في الأسابيع الأولى من الحملة الجوية. جيش تحرير كوسوفو قام بإعدام ألف مواطن من الصرب ومن الغجر ممن كانوا يعيشون في يوغسلافيا. كل تلك الإنتهاكات جرت تحت أنظار قوات الناتو حيث جرى قتل الصرب والغجر والأقليات العرقية الأخرى وحرق بيوتهم ونهبها حيث لم نسمع أصواتا من الناتو تطالب بمنع كارثة إنسانية أو الدفاع عن المدنيين العزل من قبل جيش تحرير كوسوفو حتى مرور سنة فتم إعتبار تلك الهجمات من قبل بعض المسؤولين البريطانيين ممنهجة.
الجيش الصربي والميليشيات المؤيدة له لم يكونوا مثاليين وملائكيين والضحية الوحيدة في الحرب هي الحقيقة ولكنهم في المحصلة كانوا يدافعون عن بلدهم ووحدتها في مواجهة عصابات(KLM) والتي ليس إلا عبارة عن أصحاب سوابق ومهربين وتجار مخدرات والذين بدورهم إرتكبوا جرائم تم التهليل والتكبير لها في الإعلام العربي المتأخون بإعتبارها جهادا حيث تم إرسال الألاف من الشباب المسلم للمحرقة في البوسنة والهرسك وكوسوفو وألبانيا وتم تقديم الدعم اللوجيستي من قبل قوات الناتو حيث كانت طائراتهم تنقل الرجال والإمدادات للعصابات المتأخونة والقاعدية التي تقاتل بالنيابة عن الناتو في يوغسلافيا.
وإذا كانت كوسوفو والتي قال أنها إستعادت دورها القديم كملجأ ومركز تدريب لمن يطلقون على أنفسهم إسم مجاهدين بالنيابة عن الناتو, قد تحولت لجنة الله على الأراض بفضل حملة القصف الجوي سنة 1999 فلماذا يلجأ الألاف من أهلها هربا من الجنة الكوسوفية إلى جحيم أوروبا؟
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment