كانت سيطرة الولايات المتحدة على منابع النفط في الحرب العالمية الثانية سببا رئيسيا لإنتصارها وقد إكتشف المخططون الإستراتيجيون الأمريكييون تلك الحقيقة التي شكلت تحولا هاما في العقيدة العسكرية والتخطيطية للولايات المتحدة. الحرب العالمية الثانية كانت السبب بإبراز النفط كطاقة المستقبل وكما قال المؤرخ البلجيكي الشهير مايكل كولون(Michael Collon) أن من يسيطر على النفط يتمكن من التحكم في العالم.
كانت شركات الأخوات السبعة التابعة لأسرة روكفلر تسيطر على إنتاج النفط في الولايات المتحدة(63%) من إنتاج النفط العالمي وإنتاج النفط في الخليج العربي وفنزويلا حيث قامت بتحقيق ذالك عن طريق عقد تحالفات سياسية والتخطيط لتنفيذ ودعم إنقلابات عسكرية إن إقتضت الضرورة كالإنقلاب الفاشل ضد الرئيس الفنزويلي الراحل هيوجو شافيز. كما قامت بها تلك الشركات النفطية العملاقة بنقل مركز إنتاج النفط من الولايات المتحدة إلى خارجها مما أدى إلى تحويل الولايات المتحدة من منتج للنفط إلى مستهلك رئيسي له حيث تشن الحروب وتحبك المؤامرات والدسائس السياسية وكل ذالك في سبيل السيطرة على منابع النفط الأسود. كانت تلك الشركات عازمة على إحداث إنقلاب إقتصادي في الولايات المتحدة فقامت بالتحالف مع شركات صناعة السيارات في ديترويت حيث تم تدريجيا تنحية القطارات والعربات الكهربائية والتي كانت وسيلة نقل رئيسية لصالح السيارات وتم بناء مجمعات سكنية في ضواحي المدن بعيدا عن القطارات وبعيدا عن مركز المدينة حيث تقع مقرات أغلب الشركات والمؤسسات.
التحالف بين شركة جينرال موتورز(GM) ومجموعة شركات روكفلر النفطية(الأخوات السبعة) وشركة فيرزستون(Firesston) للإطارات قد أدى إلى سحب البساط بالتدريج من وسائل النقل التقليدية كالعربات الكهربائية والقطارات لصالح السيارات والباصات التي تستهلك الوقود.
إحالة خطوط النقل التي تعمل على الكهرباء(Electrical trolley) والتي كانت متواجدة في كل مدينة أمريكية رئيسية كانت الخطوة الأولى حيث قام رئيس شركة جنرال موتورز ألفريد بي سلون(Alfred P. Sloan) بشراء أكبر شركة تقوم بتشغيل خطوط الترامات(Electrical trolley) في الولايات المتحدة وأكبر شركة مصنعة لها. كما قام بعد ذالك بنقل المقر الرئيسي للشركة إلى نيويورك مانهاتن وقام بشراء حصص رئيسية في شركات الترام حيث فام بالتدريج بإحالتها إلى التقاعد لإفساح المجال لباصات شركته التي تعمل بواسطة الوقود السائل.
في خلال فترة الكساد العظيم ومع إقتراب نشوب الحرب العالمية الثانية, فقد قام ألفريد بي سلون(Alfred P. Sloan) بتأسيس شركة الخطوط الوطنية(National City lines) والتي هي في ظاهرها شركة مستقلة بدون روابط مع شركة جينرال موتورز بينما الحقيقة هي أن شركة الخطوط الوطنية تم تأسيسها وتمويلها من قبل شركة باصات(Greyhound) والتي تعتبر مملوكة من قبل شركة جينرال موتورز. الشركة كانت مملوكة من قبل Greyhound كمساهم رئيسي بالنيابة عن شركة جينرال موتورز, شركة فايرزستون(Firestone) للإطارات, شركة فيليبس النفطية(Phillips Petroleum) وشركة نفط كاليفورنيا بالنيابة عن مجموعة الأخوات السبعة.
قامت شركة الخطوط الوطنية بشراء حوالي 100 خط عربات الترام في أكثر من 45 مدينة رئيسية في الولايات المتحدة وأحالتها بهدوء إلى التقاعد لصالح باصات وسيارات شركة GM. النتيجة أنه بحلول سنة 1950 فإن أكثر من 90% من خطوط الترام في الولايات المتحدة قد تم تفكيكها وبيعها خردة أو إحالتها إلى التقاعد أو المتاحف.
المحكمة العليا الأمريكية برأت شركة جينرال موتورز وشركائها من تهمة التأمر من الدرجة الأولى وأدانتهم بتهمة التأمر من الدرجة الثانية بمخالفة قانون الإحتكار الأمريكي والملكية الحصرية لوسائل النقل العامة والمنافسة الغير عادلة في مجال تجارة النفط, السيارات ومنتجات المطاط حيث تم تغريمها 5000 دولار أمريكي وهو مايوضح مدى تغلغل المصالح والشركات واللوبيات في النظام القضائي الأمريكي.
الخطوة التالية كانت تدمير خطوط السكة الحديد والتي كانت تقوم بمهمة مزدوجة بنقل البضائع والركاب حيث كانت تتمتع بكفائة تشغيلية عالية ودرجة أمان وأقل نسبة حوادث وإستبدالها بشبكة الطرق السريعة والسيارات والباصات التي تسير على الوقود السائل بما تحمله من نسبة المخاطرة والحوادث المرتفعة.
قامت الحكومة الأمريكية بتقديم الدعم لإنشاء المطارات وشبكة الطرق السريعة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية بينما لم يتم تقديم أي دعم حكومي لشركات القطارات والسكك الحديد بل وبالعكس فقد تم فرض ضريبة 15% على مبيعات التذاكر على ركاب القطارات والهدف رفع أسعار التذاكر أكثر من المعقول والتسبب بإحجام الركاب عن إستعمال القطارات.
بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية فقد أصبحت الأسر الأمريكية التي شارك عائلها أو أحد أفرادها في الحرب مؤهلة لتلقي قروض سكنية حكومية أو بيوت في مشاريع سكنية ولكنها في الضواحي بعيدة عن المدن وعن مكان توفر فرص العمل ووسائل المواصلات العالمة ممايعني أن إمتلاك السيارة قد أصبح ضرورة ملحة وليس رفاهية.
في سنة 1956 فقد نجح تحالف شركات روكفيلر النفطية وشركات السيارات مثل جي إم(GM) بالضغط على الرئيس الأمريكي أيزنهاور للموافقة على أكبر مشروع للبنية التحتية في الولايات المتحدة(The National Interstate and Defense Highways Act of 1956) ويعد الأضخم حتى تاريخه وربما حتى وقتنا الحالي. تمويل المشروع بنسبة 90% كان من الحكومة الفيدرالية مما يعد أكبر تدخل حكومي واضح وصريح لمصلحة شركات النفط والسيارات.
الحكومة الأمريكية قامت بفرض كافة أنواع الضرائب على شركات القطارات والسكك الحديد بينما قامت بإعفائات ضريبية لصالح شركات النفط والسيارات بل وقامت بدق المسمار الأخير في نعش شركات القطارات والسكة الحديد حيث حظرت عليهم نقل البريد بين المدن بواسطة عرباتهم وهو ماحرم تلك الشركات من مصدر كبير للدخل حيث إنخفض إستخدام قطارات السكك الحديد لنقل البريد والبضائع بنسبة 84% بين سنتي 1945-1964. وبحلول سنة 1966 فقد كان أقل من 2% من المسافرين بين المدن يستخدمون قطارات السكك الحديد حيث أن كل فرد من أولئك المسافرين كان قادرا على شراء سيارة خاصة به.
المشكلة أن شركات النفط والسيارات والتي كانت من أكثر الضاغطين بإتجاه مشروع The National Interstate and Defense Highways Act of 1956 ومشاريع مماثلة له لم تتحمل إلإ أقل القليل من التكاليف حيث إنتهى الأمر بدافع الضرائب الأمريكي لتحمل نسبة كبيرة منها حيث قفزت تكلفة المشروع من 25 مليار دولار إلى 114 مليار دولار وإستغرق إكماله 12 سنة.
الإقتصاد الأمريكي أصبح معتمدا إعتمادا كليا على النفط حيث كان سعر البرميل بين 2.5 دولار و 3 دولار من سنة 1948 حتى نهاية سنة 1960 وأصبح المواطن الأمريكي يستطيع ملئ خزان سيارته بسعر 25 سنت أمريكي للجالون بينما أصبح السيارات في متناول المزيد والمزيد من الأمريكيين بفضل قروض بنكية طويلة الأمد وبفوائد منخفضة.
شركات النفط الأمريكية وخصوصا الأخوات السبعة شربت نخب إنتصارها وجنت أرباحا طائلة بالإشتراك مع شركات السيارات وخصوصا جي إم(GM) وشركات الإطارات(Firestone) وتغلغلت الشركات والصناعات المرتبطة بالنفط مثل البلاستيك في كل ناحية من نواحي الحياة في الولايات المتحدة وأصبحت الولايات المتحدة تحتوي أكبر نسبة ملكية السيارات مقارنة إلى عدد السكان وذالك على المستوى العالمي.
بعض الإحصائيات والأراقم والتي أختم بها الموضوع:
- سنة 1925 كان النفط يشكل نسبة 20% من إستهلاك الولايات المتحدة للطاقة بينما قفزت تلك النسبة في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية مباشرة إلى 33% تقريبا.
- في سنة 1968 شكل إستهلاك الغاز والنفط مانسبته 68% من الطاقة المستهلكة في الولايات المتحدة بينما إنخفض إستهلاك الفحم من 50% في الربع قرن السابق إلى 26%.
- تضاعف إستهلاك الطاقة في الولايات المتحدة بين سنة 1948 وسنة 1964.
- نمو كبير في راغبي السفر والتخييم وحتى مستخدمي الدراجات النارية
- بين سنة 1940 و 1965 فقد تضاعف عدد الأميال المقطوعة من قبل مركبات القيادة الشخصية بدون حساب الشاحنات من 302.000 ألف مليون ميل إلى 888.000 ألف مليون ميل.
- إنتاج السيارات في مدينة ديترويت تضاعف من 4.5 مليون سيارة سنة 1940 إلى 11.5 مليون سيارة سنة 1965.
- إرتفاع نسبة مبيعات البنزين 300% بين سنة 1940 و1965.
شركات النفط الأمريكية العملاقة وشركات السيارات تحولت بفضل مايعرف (The American way of life) وإدمان الولايات المتحدة وإقتصادها على النفط إلى واحدة من أضخم الشركات والمؤسسات في التاريخ وأصبحت تلك الشركات تسعى لإبقاء سيطرتها ومكانتها.
“What’s good for General Motors is good for the country.”
رئيس شركة جنرال موتورز(Charles Erwin Wilson) في جلسة إستماع لمجلس الشيوخ الأمريكي سنة 1953
رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة
الرجاء التكرم بالضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة
مع بالغ تمنياتي بدوام الصحة والعافية
النهاية
مقال رائع ومعلومات ثمينة ومجهود جبار يستحث الثناء . شكراً لك من الأعماق وأرجو أن تستمر بلا إنقطاع فنحن متابعون بشغف لكل ما تخطه يداك في هذه المدونة الجميلة . تحياتي
ReplyDeleteشكرا لإطرائك وتعليقكك اللطيف وأعدك بالإستمرار إن شاء الله
ReplyDelete