الخمسة قرون الأولى منذ وفاة يسوع المسيح هي التي تحدد تاريخ المسيحية من خلال المجامع الكنسية المسكونية التي أصدرت المراسيم المتعلقة بتلك العقائد وناقشت الخلافات بين الطوائف المسيحية المختلفة. هناك خمسة مراحل يمكن من خلال تقسيم أول ٥٠٠ سنة من تاريخ المسيحية في العصور القديمة: المرحلة الأولى منذ وفاة يسوع المسيح الى ٢٥٠م وبداية عصر الإضطهاد, المرحلة الثانية ٢٥٠م - ٣١١م, المرحلة الثالثة ٣١١م - ٣٢٥م, المرحلة الرابعة ٣٢٥م - ٣٩٢م, المرحلة الخامسة ٣٩٢م - نهاية القرن الخامس ميلادي.
المرحلة الأولى: بداية عصر الإضطهاد
كانت السلطات الرومانية تفرض على المواطنين والمقيمين أداء طقوس الولاء للإمبراطور الروماني من خلال التضحيات والقرابين أو طقس بسيط عبارة عن حرق البخور أمام تمثال الإمبراطور. وقد كان هناك استثناء اليهود من ذلك الطقس وكانت المسيحية في بدايتها ينظر إليها على أنها مذهب من مذاهب اليهودية ويسوع المسيح كان يهوديا. ولكن مع تحول المسيحية الى دعوة منفصلة عن اليهودية من خلال بولس الرسول, بدأت الدولة الرومانية في تغيير وجهة نظرها والطلب من المسيحيين تقديم طقوس الولاء للإمبراطور الروماني وهو وكانوا يرفضونه. إن طقوس العبادة في الديانة المسيحية كانت تقدم الى الله وليس الى أشخاص أو تماثيل أشخاص.
السلطات الرومانية كانت تحاكم المسيحيين بتهمة الخيانة وأنهم يرفضون الإعتراف بالإمبراطور الروماني.كما أنه تم اتهام المسيحيين بأنهم مصاصي دماء وآكلي لحوم البشر بسبب طقوس الأفخارستيا التي تتضمن عبارات مثل تناول قطع من جسد المسيح وشرب دمائه وهي عبارات رمزية ولكن المواطن الروماني في القرن الميلادي الأول كان محدود الثقافة والتفكير مما أدى الى إنتشار صورة نمطية عن المسيحيين آكلي لحوم البشر وملاحقة السلطات الرومانية لأتباع الديانة المسيحية وكان ذلك بداية عصر الإضطهاد.
المرحلة الثانية: عصر الإضطهاد الممنهج
أول مرسوم حكومي ضد أتباع الديانة المسيحية كان سنة ٢٤٩م خلال فترة حكم الإمبراطور تراجان ديسيوس(ديكيوس) حيث أصبح تقديم فروض الطاعة الى الإمبراطور إجباريا والحصول على شهادة من السلطات الحاكمة وبدونها يتعرض الشخص الى العقوبة التي قد تصل الى الموت. الإمبراطور ديسيوس توفي سنة ٢٥١م وتولى الحكم خلفه الإمبراطور فاليريان الذي عانى المسيحيون خلال فترة حكمه من إضطهاد ولكن أقل قسوة من سابقه. ولكن عصر الإضطهاد الممنهج لم يعد الى سابق عهده إلا بعد ٤٠ عاما خلال فترة حكم الإمبراطور ديوكلتيانوس وكان أخر فترات الاضطهاد وأكثرها قسوة وعنفا وعرف بإسم اضطهاد ديوكلتيانوس. الإمبراطور الروماني غاليريوس(٣٠٥م-٣١١م) استمر في ممارسة الاضطهاد ضد أتباع الديانة المسيحية حتى سنة ٣١١م وهناك عدد من التفسيرات, أحدها أنه كان مريضا ويعتقد في قدرة الصلوات المسيحية على شفائه وتفسير أخر أنه كان يحاول استمالة جنود الجيش الذين إعتنقوا المسيحية حتى يكسب ولاءهم في صراعه ضد منافسيه على الحكم الذي كان أحدهم قسطنطين الأول الذي عقد سنة ٣٢٥م خلال حكمه مجمع نيقية.
المرحلة الثالثة, صعود قسطنطين
قسطنطين الأول(٢٧٢م-٣٣٧م) والذي كان لقبه العظيم هو أحد أكثر الشخصيات أهمية في تاريخ المسيحية في العصور القديمة. قسطنطين كان معتادا على بلاط الحكم في روما حيث عمل خلال فترة حكم الإمبراطور ديوكلتيانوس كما عمل مع الجيش الروماني في بريطانيا. سنة ٣٠٦م وصل قسطنطين الى كرسي الحكم بعد صراع عنيف ودموي مع خصومه. معركة جسر ميلفيو الحاسمة سنة ٣١٢م كان معركة فاصلة إستخدم خلالها قسطنطين راية قواته مرسوم عليها الصليب رغم أنه كان خلال تلك الفترة وثنيا ولم يكن تحول الى المسيحية.
سنة ٣١٣م أصدر قسطنطين مرسوم ميلان الذي عامل المسيحية بوصفها أحد الأديان المعترف فيها في الإمبراطورية الرومانية. كما أن مؤتمر نيقية عقد تحت إشراف الإمبراطور قسطنطين سنة ٣٢٥م وهو أول مؤتمر مسكوني(عالمي) في تاريخ المسيحية. ولكن قسطنطين نفسه كان وثنيا ولم يتعمد إلا قبل وفاته مباشرة وكان قبوله المسيحية مرهونا بحسابات سياسية لها علاقة باستقرار الإمبراطورية الرومانية ووحدة أراضيها.
المرحلة الرابعة: انتصار المسيحية الإمبراطورية
دخلت المسيحية مرحلة جديدة من تاريخها مع تولي الإمبراطور قسطنطين الأول(العظيم) الحكم وإصدار مرسوم ميلان سنة ٣١٣م الذي منح المسيحية صفة قانونية وأصبحت أحد الأديان المعترف بها في الإمبراطورية الرومانية. الإمبراطور الروماني جوليان(المرتد) حاول إعادة الوثنية الى الإمبراطورية الرومانية والقضاء على المسيحية ولكنه فشل وكانت فترة حكمه قصيرة نوعا ما (٣٦٠م-٣٦٣م). ثيودوسيوس الأول(٣٤٧م-٣٩٥م) أصدر مرسوما بأن المسيحية هي الدين الرسمي الوحيد المعترف به في الإمبراطورية الرومانية ومنع الوثنية وأصبح تدريس الهرطقات جريمة يعاقب عليها القانون.
المرحلة الخامسة: تقسيم الإمبراطورية الرومانية
الإمبراطورية الرومانية خلال فترة حكم ثيودوسيوس الأول(٣٤٧م-٣٩٥م) كانت على أرض الواقع مقسمة وغير متجانسة حيث امتدت على مساحة رقعة واسعة من الأرض. أسباب الإنقسام كانت لغوية ودينية حيث القسم الشرقي من الإمبراطورية يضم اليونان, سوريا, تركيا, فلسطين, وشرق البحر الأبيض المتوسط, عاصمتها القسطنطينية ولغتها اليونانية, بينما القسم الغربي يضم إيطاليا, إفريقيا الشمالية, بلاد الغال(فرنسا), ألمانيا, إسبانيا وبريطانيا, العاصمة روما واللغة اللاتينية.
الإنقسام أصبح بارزا خلال القرن الخامس ميلادي بسبب الغزوات التي تعرضت إليها أوروبا الغربية من قبائل جرمانية(القوط, الوندال) والتي كان بعضها اسميا يعتنق الديانة المسيحية. كما تعرضت أوروبا الى غزو قبائل الهون البربرية بقيادة أتيلا وأصبحت الإمبراطورية الرومانية الغربية في حالة من الضعف حتى أن العاصمة روما سقطت مرتين وتعرضت الى النهب والسلب. الضعف الذي أصاب الإمبراطورية المسيحية الغربية كانت نتيجته تقوية مركز البابا في روما مقابل ضعف الملوك والأمراء الأوروبيين.
هناك أمر مهم أنه اعتبارا من منتصف القرن الخامس الميلادي لم يعد ممكنا تجاهل سلطة ونفوذ بابا الفاتيكان في روما خصوصا ليو الأول(متوفى ٤٦١م) الذي كان لقبه ليو(العظيم) حيث وصلت الكنيسة الى مستوى غير مسبوق من السلطة والثروة والنفوذ.
الإمبراطورية الرومانية الشرقية كانت تعيش ظروفا مختلفة حيث أنه بإستثناء غزوات متفرقة من القوط, فقد كانت أغلب غزوات القبائل البربرية تتوقف قرب الحدود اليونانية إما بهزيمتهم أو استنفاذ قوة إندفاعهم. الحضارة واللغة اليونانية والكنيسة الأرثودكسية الشرقية عاشوا عصورا غير مسبوقة من الازدهار. ولقد أصبح الخلاف الديني الرئيسي بين الكنيسة الشرقية والغربية ليس عقيدة التثليث لأن ذلك الخلاف تمت تسويته سنة ٣٨٠م, ولكن حول طبيعة يسوع المسيح. السؤال الرئيسي هو كيف حصل الإندماج بين الطبيعة البشرية والإلهية من خلال يسوع الناصري؟ الخلاف كان حادا للغاية حتى أنه عقد المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونية سنة ٤٥١م من أجل حل ذلك الخلاف.
مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والعافية
…….يتبع
No comments:
Post a Comment