وسائل الإعلام وصناعة الأخبار

إنَّ مهمة وسائل الإعلام ليس عرض الحقيقة للمتابعين والمشاهدين بل التعبير آراء والدفاع عن مصالح النخب السياسية، الجهات الممولة، الشركات، المصالح التجارية ولوبيات الضغط. خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان المصدر الرئيسي لتغطية نفقات الصحف من تكاليف طباعة ورواتب هي مبيعات النسخ المطبوعة حيث ارتفعت تكلفة تأسيس صحيفة في المملكة المتحدة من 1000 باوند ومبيعات تقدر 6000 نسخة مطبوعة الى 50 ألف باوند سنة 1867 و2 مليون باوند سنة 1918 ومبيعات بلغت 250 ألف نسخة حتى تعادل الصحيفة نفقاتها التشغيلية. وفي الولايات المتحدة، فإن متوسط تكاليف تأسيس صحيفة بلغ 69 ألف دولار سنة 1851 بمتوسط مبيعات 450 ألف دولار سنة 1872. وخلال فترة العشرينيات من القرن العشرين، كانت الصحف تحقق مبيعات قد تزيد عن 18 مليون دولار.

إن ازدياد النفقات التشغيلية قد أدى الى اعتماد وسائل الإعلام على وسائل تمويل إضافية مثل الدعاية والإعلان خصوصا خلال الحملات الانتخابية وقيام المصالح التجارية والشركات بتخصيص مبالغ مالية للترويج لأعمالها حيث ظهرت ملاحق دعائية في الصحف مخصَّصة للدعاية والإعلان والترويج. إن دخول المصالح التجارية وعلى وجه الخصوص الشركات العابرة للقارات وشركات النفط اللعبة الإعلامية قد أدى الى تغيير قواعدها وقوانينها حيث أصبحت وسائل الإعلام تمارس الرقابة الذاتية وتتجنب توجيه النقد الى الشركات والمصالح التجارية قدر الإمكان حتى لا تتعرض مصادر تمويلها للحجب والتقنين. إن كل ما سبق ذكره قد أدى الى ظهور تكتلات عبارة عن شركات إعلامية عملاقة برأسمال يبلغ مليارات الدولارات ودخول لاعبين مستقلين الى سوق الإعلام مثل جيف بيزوس مالك موقع أمازون الذي قام بشراء صحيفة نيويورك تايمز وشركة جنرال إلكتريك التي قامت بشراء عدد من محطات البث التلفزيوني منها (CBS، NBC) حيث الشركات تحرص على امتلاك وسائل إعلامية لتدافع عن مصالحها وتكون لها كلمة مسموعة.

ولكن وسائل الإعلام التقليدية بدأت في مواجهة منافسة شرسة مع بروز مواقع مشاركة الفيديوهات ومواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر واستحواذها على نصيب من عائدات الدعاية والإعلان. رجل الأعمال الأمريكي جورج سوروس انتقد وسائل التواصل الاجتماعي ووصفها بأنها تهديد للديمقراطية ولكن الصراع في جوهره على مليارات الدولارات من الأموال التي يتم إنفاقها سنويا على الدعاية. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع مثل يوتيوب بدأت بتهديد سيطرة النخب السياسية التقليدية وقدرتها على التحكم بالجماهير، لقد تغيرت قواعد اللعبة ودخلنا الى العصر الرقمي. وسائل الإعلام سارعت الى محاولة التكيف مع الواقع الجديد وقامت بامتلاك حسابات على مواقع مثل فيسبوك، تويتر ويوتيوب. كما أن أغلب الصحف تحولت الى الشبكة العنكبوتية وبعضها أعلن الغاء النسخة المطبوعة والتحول الكامل الى شبكة الإنترنت. إن إعتماد وسائل الإعلام على مصادر تمويل مختلفة أدى الى ممارستها نوعا من الرقابة الذاتية على الأخبار التي تنشرها حتى لا تغضب الممولين وتعرض علاقتها معهم للخطر. أحد وسائل الرقابة هي إختيار صحفيين ومقدمي برامج يلتزمون بالخط التحريري للقناة أو الصحيفة. 

الحرب على العراق هي أحد الأمثلة على نفاق وسائل الإعلام الرئيسية وممارستها إزدواجية المعايير. تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت لبرنامج 60 دقيقة على قناة (CBS) الإخبارية وذلك بخصوص مقتل 500 ألف طفل في العراق وأنه أمر مقبول أخلاقيا مقابل إسقاط نظام الرئيس صدام حسين لم يلقى أي إهتمام من وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة. مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في تركيا حيث لم تستخدم وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة خطابا إعلاميا تشدِّدُ فيه على محاكمة القتلة أو من أصدر الأوامر بالقتل وتم إغلاق ملف القضية إعلاميا خلال فترة زمنية قصيرة. ولكن مقارنة كل ذلك بقضية تعرض رسام الكاريكاتير السوري علي فرزات لاعتداء نفذه مجهولون وكسر خلاله أحد أصابعه, فقد تحول ذلك الإصبع المكسور الى رمز عالمي لحرية الرأي والتعبير. وسائل الإعلام المختلفة وجهت الاتهام للحكومة السورية بالتورط في الأعتداء بل إن البعض وصفه بأنه محاولة إغتيال. ورغم مرور أكثر من 8 سنوات على قضية الاعتداء على علي فرزات, إلا أن الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة مازالت تذكرنا بإصبعه المكسور. وقد وصلت الحماسة في الدفاع عن إصبع على فرزات المكسور الى أن البرلمان الأوروبي قد منحه وأربعة ناشطين عرب أخرين جائزة ساخاروف وقامت الحكومة الهولندية بإضافة ملخص عن قصة حياته باللغة الهولندية الى مناهج التعليم الثانوي لديها.

إن مهمة وسائل الإعلام تطوَّرَت من نقل الأخبار والأحداث للمشاهدين والمتابعين الى صناعتها وتشكيل وعي المشاهد حتى يلائم أهداف وأجندات النخب السياسية والاقتصادية التي تقوم على تمويل وسائل الإعلام الرئيسية حيث يملك عدد محدود من الشركات جميع وسائل الإعلام من صحف ومجلات وإذاعات ومحطات تلفزيونية. وفي سبيل تحقيق ذلك فإن وسائل الإعلام لديها الإستعداد لتخطي كافة العوائق الأخلاقية في سبيل تحقيق أهدافها.

مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية

النهاية