تختلف الكلمات الواردة في مقدمة الإنجيل بحسب القديس يوحنا بشكل محوري عن الكلمات التي ترد في مقدمة الأناجيل الأخرى. فقد تم تقديم القديس يوحنا الذي يعمد بالبرية ولكن بطريقة مختلفة عن باقي الأناجيل الإزائية. كما أن وجود يسوع المسيح قبل الخلق منذ البداية هو فكرة مختلفة لم تكن موجودة في أي من الأناجيل الإزائية حيث أن نظرية ألوهية المسيح لها جذورها في تلك الفكرة. فإذا كان الإنجيل بحسب القديس يوحنا له جذور يهودية فكيف يتم يقوم مؤلف يهودي بكتابة تلك الأفكار الغير يهودية في إنجيله؟
هناك إجابتان محتملتان لذالك السؤال المحير. الإجابة الأولى هي إتجاه لبعض علماء الإنجيل أن كاتب المقدمة هو شخص ثالث لا علاقة له بالمؤلفين الأخرين للإنجيل وحيث يتفق عدد من العلماء المختصين أن للإنجيل من كتابة شخصين حيث هناك طبقتين من الأفكار على الأقل. الإشكالية التي تعترض ذالك الإتجاه هي ان مقدمة الإنجيل لم تكن معزولة عن باقي النصوص حيث تطورت فكرة المقدمة وأصبحت واضحة ضمن نصوص الإصحاحات الأخرى للإنجيل. كما يتفق بعض علماء الإنجيل على أن جميع الجمل التي تحتوي عبارة(أنا) هي من كتابة ذالك المؤلف الثالث.
الإجابة الثانية أن تلك المقدمة قد أسيئ فهمها من قبل الكثيرين مدفوعين بموجة عداء مسيحية ضد السامية من قبل الأمميين محاولين إخفاء حقيقتها وأنها متجذرة في العقيدة اليهودية.
لتحليل الموضوع بواقعية فإن تلك المقدمة قد وردت مع إختلاف بسيط لاينتقض من هويتها اليهودية وذالك في بداية سفر التكوين من العهد القديم للكتاب المقدس(1:1)في البدء خلق الله السموات والأرض. إن فكرة اللوجوس(الله) المتحكم بكافة أوجه الحياة البشرية هي فكرة متأصلة في العقيدة اليهودية. مقارنة بسيطة بين مقدمة الإنجيل بحسب القديس يوحنا ومقدمة سفر التكوين سوف تؤكد لنا تلك فكرة التشابه والجذور اليهودية للمقدمتين رغم الإختلاف بينهما. للوصول لمفهوم أوضح للفكرة, علينا النظر في المراحل التي مر بها مفهوم(الكلمة) وكيف تحولت تلك الكلمة من مكتوبة في التوراة إلى أفواه الأنبياء ثم المرحلة المسيانية والتي مرت بمجموعة تبدلات وتغيرات لم تنتقض من هويتها اليهودية وأنها كانت نابعة من رحم الطقوس والتقاليد اليهودية.
بداية فإن البحث في أصول كلمة اللوغوس(Logos) قد يوضح لنا بطريقة مختلفة التشابه بين تلك الكلمة ومثيلتها باللغة العبرية(Dabar). باللغة العربية فإن كلمة اللوجوس(Logos) وهي اللفظة اليونانية المعادلة للكلمة باللغة العربية ويقابلها بالعبرية(Dabar) والتي تحمل مفهوم ان تلك الكلمة لها السلطة لتقوم بتشكيل العالم, لإظهار وجود الله, دعوة الناس للترفع عن الأنانية وتعميق مفهوم الإحساس بالضمير. المفهوم الذي تحاول كلمة لوجوس(Logos) إيصاله بالنظر إلى مقدمة إنجيل يوحنا لايختلف عن المفهوم الذي تحاول لفظة(Dabar) ترسيخه.
في مرحلة لاحقة من التاريخ اليهودي فإن واضعي ذالك التاريخ قد عبروا بشكل متزايد عن إيمانهم بأن الله يتميز بالإستمرارية وليس مجرد ظاهرة خارجية كعمود النار أو السحابة أو الشجرة المحترقة التي كلمت موسى. في تلك الفترة التي إمتدت بين عبودية اليهود في مصر وإنتقالهم للعيش فيما أطلق عليه أرض الميعاد فقد كانت الخيمة المتنقلة التي توضع فيها الأغراض المقدسة هي مسكن متنقل للرب حيث ان اليهود أنفسهم لم يكن لهم مكان ثابت للسكن فهم متنقلون في الصحراء بإستمرار. مع إنتهاء مرحلة التيه في الصحراء وبداية الإستقرار فإن الرب قد عهد ببعض من سلطاته للرجال القادرين في بني إسرائيل كما جاء في سفر الخروج 18: 25-26 مع بقاء القرار النهائي بيد موسى.
عندما قام الرب بنقل بعض من سلطاته إلى أشخاص متعددين في بني إسرائيل فإنه قد برزت الحاجة إلى تشريع لأن ذال قد تسبب ببروز شخصيات متعددة قد تختلف أو تتفق فيما بينها, فكان تلقي موسى الشريعة من الرب على جبل سيناء. تلك الشريعة بدأت كما في خروج 1:20(ثُمَّ تَكَلَّمَ اللهُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ:). تلك الكلمات التي تحولت إلى مجموعة تشريعات تحكم كافة نواحي الحياة ثم مع مرور الوقت فإن تلك التشريعات قد أصبحت مقدسة لأن مصدرها كلمات الله.
تعلم اليهود أن الله ليش شيئا ملموسا يمكن إقتنائه وأن كلمات الله ليست مجرد إقتراحات يمكن حصرها في زمان أو مكان معين حيث مرت الأمة اليهودية فيما بعد بمرحلة الرسل والذي كانوا في العادة من خارج حدود المؤسسة الدينية التقليدية والتي أوكلت المهمات الدينية حصريا لبني لاوي. أولئك الرسل والذين تملكهم وحي الرب, قاموا بنقل ذالك الوحي بطريقة غير تقليدية ومختلفة عما سبق.
إن الرب بالطبع غير متغير ولكن مفهوم الرب لدى الإنسان, التاريخ وحتى تاريخ الإنجيل نفسه هو قصة تغير دائم لمفهوم الإنسان للرب. تلك القصص التوراتية بداية من الرب القبلي الذي أرسل الأوبئة على المصريين منها قتل أول مولود ذكر لكل أسرة مصرية(خروج 12:12), وإيقاف الشمس في السماء لمنح يوشع الفرصة لقتل المزيد من أعدائه العمونيين(يوشع 10: 12-14), والنبي صموئيل الذي أصدر الأوامر للملك شاؤول لإرتكاب مذبحة بحق العماليق(1صموئيل 15: 1-3), وعالمية الرسالة السماوية كما في ملاخي وإنتهاء بأحبوا أعدائكم(متى 5:44). كل تلك الرحلة التي بدأتها كلمة الرب التي جائت في التوراة إلى كلمة الرب التي تفوه بها الأنبياء والتي كانت مرحلة مؤقته تنتهي بإيصال الرسالة.
المرحلة التالية وعامل التغيير التالي لكيفية نظرة اليهود لمفهوم كلمة الرب هي الفكرة المسيانية والتي ولدت من داخل رحم اليهودية.
في بدايتها فإن تلك الكلمة لم تعني أكثر من (الممسوح بالزيت), لقب ملكي يمنح لملك اليهود. حيث كانت تلك الطريقة التقليدية لإختيار ملوك بني إسرائيل وهي مسحهم بالزيت من قبل الأنبياء كما حصل مع شاؤول أول ملوك بني إسرائيل الذي تم مسحه بالزيت على يد النبي صموئيل(1صموئيل 10:1). وعندما نشب الصراع بين شاؤول وداوود حيث عصى شاؤول أوامر الرب مرتين, أول مرة حين قدم محرقات وذبائح في مخماس حيث ذهب ليقاتل الفلسطينيين وبعد أن تأخر النبي صموئيل عن الحضور(1صموئيل 13: 8-14) والمرة الثانية حيث قاتل العماليق فعقا عن القطيع الممتاز وعن الملك(1صموئيل 15: 1-35). وحيث ان الله لم يعد يثق في شاؤول وطاعته له فقد رفع عنه الملك وتم مسح داوود مكانه وقتل شاؤول في معركة جبل جلبوع إثر هزيمة منكرة وسقط على سيفه ومات(1صموئيل 31: 1-7).
السلالة الملكية تم تأسيسها بداية مع نسل داوود(1000 قبل الميلاد) إلى (586 قبل الميلاد) بتدمير أورشليم من قبل البابليين وقتل أبناء ملكها صدقيا أمام أبيهم ثم سمل عينيه وحمله أسيرا إلى بابل حيث توفي في السجن. وحيث أن صدقيا كان أخر الملوك من نسل داوود فبمقتله إنتهت السلالة الملكية ولم يعد مفهوم المسيا(الممسوح بالزيت) بمعناه الحرفي وبدأت مرحلة تداول المفهوم بالأساطير الدينية اليهودية بأنه شخص سوف يأتي ممثلا للرب سائرا في طريقة المستقيم بطريقة مثالية وكاملة. وتلك كانت كيف بدأ تبلور المفهوم اليهودي لكلمة المسيا(Messiah) قد بدأ.
وبما أن مفهوم تلك الكلمة قد إنتشر بدون عوائق ضمن الأساطير الدينية اليهودية فقد تبدل وتغير وفق الأزمنة والعصور ولم يكن هناك إتفاق بين اليهود على مفهوم موحد لتلك الكلمة فمرة يتم تصوره كقائد عسكري يقيم السلطة لليهود على الأرض وينتقم من اعدائهم ومضطهديهم ومرة كشخص يتعرض للتعذيب وهو نفسه مضطهد من قبل أعدائه. تلك التقاليد المسيانية قد تم إحتوائها ضمن مفهوم (إبن الإنسان) وهو من عداد المفاهيم التي برزت في عصور مختلفة لتلك الكلمة(الممسوح-Messiah) كما في روايات النبي حزقيال في العهد القديم من الكتاب المقدس حيث تم تصويرها بصورة بشرية حيث يكون الممسوح كائنا بشريا. تلك الصورة البشرية لم تكن جامدة بل تطورت في مرحلة لاحقة إلى شخصية تبشر بيوم الدينونة وإقتراب الساعة التي تقام فيها مملكة الرب على الأرض. في اللحظة التي وصل فيها المفهوم إلى روايات النبي دانيال, فقد أصبحت شخصية (الممسوح-Messiah) تمتلك قدرات خارقة وتشترك مع الله في لاهوته(تقديم حق العبادة). حتى الأن فإنه وراء كل تلك الرموز المسيانية فإن هناك علاقة قوية بمفهوم الإله الواحد ووحدة الرب والذي مازالت فكرة التعاطي معه كونه كائن خارجي.
النبي أشعياء في (35: 1-2, 5-6) قدم وصفا للكمال الذي تكون عليه مملكة الرب(السماء) التي من المفترض أن يقيمها الممسوح(Messiah) حين ظهوره وذالك أمر مستقبلي والذي يكون في نهاية الزمان.
إن كل ماسبق ذكره يؤكد الهوية اليهودية لإنجيل يوحنا وخصوصل مقدمة الإنجيل والتي تطورت فكرتها لاحقا ضمن نصوصه. ولكن النظرة النهائية المتعلقة بتحول الكلمة لجسد وأنه سوف يحل بيننا كما جاء في نصوص الإنجيل وتحديها للنظرة التقليدية لله ككائن خارجي سوف تحتاج للمرور بعدة مراحل أخرى متعلقة بتطور الفكر الصوفي اليهودي والمرتبط بأدب الحكمة والأساطير اليهودية.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
صح قلمك كالعاده مبدع,, اخوك ابو ماجد التميمي الرياض
ReplyDelete