يختلف إنجيل القديس يوحنا عن باقي الأناجيل الإزائية[متى, لوقا, يوحنا] ويتميز عنها بمجموعة من الخصائص منها أولا أن يسوع المسيح زعم فيه أنه كائن قبل كل الخليقة قدم لهذه الأرض من مكان أخر وحياة أخرى (يو ١: ١-٥), ثانيا تميز المسيح بمايعرف الإستبصار - وهو معرفة مافي نفوس الأخرين وقرائة أفكارهم (يو ١: ٤٧-٤٨) و (يو ١٣:٢١), تحمل ألام الصلب بدون إظهار ذالك (يو ١٨:١١) و (يو ١٩: ٢٨-٣٠).
كما أن إنجيل يوحنا يعتبر الكتاب المفضل لدى زائري الكنائس المنتظمين وتستخدم إقتباسات منه في الجنازات المسيحية (يو ١٤: ١-٦), ويحوي أكثر النصوص تكرارا وهو نص(يو ٣:١٦)(فإن الله أحب العالم حتى إنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية), وأقصر نص(يو ١١:٣٥)(فدمعت عينا يسوع) وتستخدم مقدمته في القداسات والصلوات المسيحية بوصفة أخر الأناجيل.
ولكن أهم دور لعبه إنجيل القديس يوحنا هو انه في مؤتمر نيقية المنعقد سنة ٣٢٥م, لعب دورا رئيسيا في صياغة قوانين الإبمان والعقيدة المسيحية الأرثودكسية للكنيسة الجامعة(الكاثوليكية) حيث كانت التفسيرات الكنسية لنصوصه السبب في أحداث مأساوية مثل ملاحقة المهرطقين ومحاكم التفتيش.
بالإضافة إلى الإختلافات عن باقي الأناجيل الإزائية فإن إنجيل القديس يوحنا يثور الجدل حول شخصية مؤلفه فهل هو شخص واحد أو أكثر من مؤلف؟ هل تم وضع نصوصه في فترة زمنية واحدة أم على فترات متباعدة؟
الدارس للأناجيل الإزائية يلاحظ أن الكثير من العبارات ترسم الشخصية الإنسانية البشرية ليسوع المسيح على حساب الشخصية السماوية الإلهية كما في لو٢:٥٢, مر١٣:٣٢, لو٧:٩ وغيرها الكثير في كافة الأناجيل الإزائية الثلاثة ويعرف ذالك باللغة الإنجليزية بمصطلح(Low Christology). على الجانب الأخر فإن إنجيل القديس يوحنا يرسم الشخصية السماوية الإلهية ليسوع المسيح على حساب الشخصية البشرية الإنسانية كما في يو١: ١-٨, يو٨: ٥٦-٥٨, يو١٠: ٣٧-٣٨ وهي أمثلة بسيطة على مايعرف بمصطلح(High Christology).
وجود إصحاحات تعزز كلا المفهومين في إنجيل يوحنا خلق مشكلة فهم بين العلماء الدارسين له تتعلق بإحتمال وجود أكثر من مؤلف خصوصا أن (Low Christology) يمكن ملاحظتها في عدد من الإصحاحات منها يو١:٤١, يو١:٤٩.
في إنجيل القديس يوحنا يكثر يسوع المسيح من إستخدام كلمة [ أنا ] كتعبير عن الشخصية السماوية الإلهية ونلاحظ ذالك في (يو١٠:٣٠).
إفتتاحية إنجيل القديس يوحنا (يو١:١) فيها تعبير عن الشخصية الإلهية وأنه كان في البدء قبل كل شيئ [في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله] ثم يكمل في (يو١:٤)[والكلمة صار بشرا فسكن بيننا].
وقد يجادل البعض أن وجود الإصحاحات التي تعبر عن شخصية المسيح السماوية الإلهية والتي تعبر عن الشخصية الإنسانية البشرية في إنجيل يوحنا إنما هو يعبر عن عقيدة الكنيسة في شخصية يسوع المسيح التي تتميز بكونها إنسانية وإلهية في الوقت نفسه ولكن تلك الشخصية المزدوجة لم تكن سائدة في العقائد المسيحية حتى فترة ٣٠٠ سنة بعد واقعة الصلب ومن الصعوبة أن تعبر عن أفكار وعقائد إنجيل كتبه شخص يعيش في منتصف القرن الأول ميلادي.
علماء اللاهوت المؤيدون لفكرة أن المصادر التي تم الإعتماد عليها لكتابة إنجيل القديس يوحنا ترجع لفترة زمنية أقدم من المتعارف عليه وهم يسوقون مثالا كتاب المعجزات(The Book Of Signs) وأن جميع ماذكر من إصحاح ٢-١١ متأثر بما ذكر في ذالك الكتاب.
لكن ماهي الأسباب التي دفعتهم لتبني مثل تلك الفكرة؟
الجواب بسيط وهو أنه نظريا وبإجماع كبار علماء اللاهوت والمتخصيين في دراسة الكتاب المقدس فإن الترتيب النظري للأناجيل هي إنجيل القديس متى ثم إنجيل القديس مرقس ثم إنجيل القديس لوقا وأخرها يوحنا ولا تجد طبعة من الكتاب المقدس - العهد الجديد تحيد عن ذالك الترتيب ويختلفون مع بعضهم البعض في المصادر التي إعتمد عليها كتاب الأناجيل. هناك أغلبية من العلماء ترى أن إنجيل مرقس هو أقدمها وهو كان مصدرا رئيسيا إعتمد عليه كل من متى ولوقا ولكن هناك روايات في متى ولوقا لم ترد في إنجيل القديس مرقس وهو مايطلق عليه في المصادر المسيحية بالإنجيل أو بالمصدر(Q). أما بالنسبة لإنجيل القديس لوقا فهو يتفرد بأعلى نسبة من الروايات التي لم ترد في الأناجيل الإزائية الأخرى(مرقس ومتى) وتبلغ نسبتها ٣٥%.
بالنسبة لإنجيل القديس يوحنا فهناك العديد والعديد من الرويات التي لم يرد ذكرها في أي من الأناجيل الإزائية ولعل أشهرها هي تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل(يو٢: ١-١١) ورواية إحياء لعازر من الموت(يو١١: ١-٤٥) ورواية المرأة الزانية(يو٨: ١-١١), وهذه الأخيرة تم حذفها من العديد من طبعات الكتاب المقدس الحديثة لأنها لم توجد في أقدم المخطوطات ولم تظهر إلا في مخطوطات إنجيل يوحنا التي تعود للعصور الوسطى ومخطوطة واحدة على الأقل من إنجيل القديس لوقا تعود لنفس الفترة. إصحاحات كاملة من(يو٢) إلى يوحنا(١١) وقصص لم يرد ذكرها إلا في إنجيل يوحنا. والذي يلاحظه كل من يقرأ إنجيل القديس يوحنا بتمعن هو وجود نصوص تم الإعتماد عليها لم تكن متوفرة لكتاب الأناجيل الأخرين, بعضها من كتاب المعجزات(The Book Of Signs) ولكن السؤال هو كيف الإثبات بأن كتاب العلامات هو كان متوفرا بحالة منفصلة كمصدر وتم الإستعانة به بشكل مستقل في كتابة إنجيل القديس يوحنا ولم يكن جزءا أصيلا من الإنجيل؟
والجواب هو في الترتيب الرقمي للمعجزات حيث أنه في (يو٢:١١) يتم وصف معجزة تحويل الماء إلى خمر بأنها [أولى آيات يسوع] وفي بعض الترجمات [هذه بداية الأيات فعلها يسوع في قانا الجليل] ومعجزة شفاء إبن خادم الملك تم وصفها في (يو٤:٥٤)[هذه أيضا أية ثانية صنعها يسوع لما جاء من اليهودية إلى الجليل] ثم يختفي التعداد الرقمي للمعجزات حيث تذكر بدون ترتيب رقمي حين نصل للعلامة الأخيرة وهي معجزة شفاء لعازر في إصحاح ١١.
على الرغم من وجود علامات(معجزات) مشتركة بين الأناجيل الإزائية وإنجيل القديس يوحنا إلا أن أغلب معجزات إنجيل القديس يوحنا يتفرد بها عن غيره ومن مصدر منفصل إستعان به المؤلف أو المؤلفون للإنجيل ولم يعد متوفرا لنا. ولكن ذالك ليس الأمر الوحيد الذي تتفرد به تلك المعجزات بل حجم تلك المعجزات وطريقة كتابتها التي تجعل من الصعب تفسيرها حرفيا فيسوع المسيح لم يقم بتحويل كأس من الماء إلى خمر بل ستة أجران يتسع الواحد منها لما يقرب من مكيالين إلى ثلاثة. المكيال الواحد يساوي ٣٩ لترا تقريبا أي أن لأجران الستة كانت تتسع لما يقرب من ٦٠٠ ليتر من الخمر.أما بالنسبة لعازر فإنه لم يكن قد توفي للتو واللحظة أو فقد وعيه بسبب المرض وتم الجزم بوفاته ولكنه كان متوفيا منذ أربعة أيام ويسوع المسيح إعتبره مجرد نائم وهو ذهب ليوقظه(يو١١:١١).
بالنسبة للكثير من الباحثين فإن الترتيب الجغرافي للأحداث في إصحاحات (٤,٥,٦) كان يجب أن يكون (٤,٦,٥) مما يؤكد بالنسبة لهم أن الإنجيل ليس من تأليف شخص واحد وقد يكون أحد المؤلفين ليس على إلمام بجغرافية المنطقة ولا بترتيب الأحداث التسلسلي إنما قام بوضعها كيفما إتفق.
يسوع المسيح في (يو٤:٣) ترك اليهودية(أورشليم) ثم مضى إلى الجليل ثم كان عيد اليهود فصعد إلى أورشليم(يو٥:١) مرة أخرى ثم مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل(يو:٦:١) وكان الفصح عيد اليهود قريبا(يو٦:٤). ألم يكن الترتيب المنطقي أن يسوع المسيح ترك اليهودية إلى الجليل حيث عبر بحر الجليل ثم من هناك إنطلق إلى اليهودية(أورشليم) مرة أخرى لأن عيد الفصح كان قريبا؟
الخطابات الوداعية من يسوع المسيح لتلاميذه والموجودة في (يو ١٣-١٦) وإحتمال في (يو ١٧) هي نقطة أخرى تدفع بإتجاه الإعتقاد بأكثر من كاتب لإنجيل القديس يوحنا. أولا فهي تعكس ظروفا وصعوبات واجهها أتباع المسيح في نهاية القرن الأول الميلادي أكثر مما تعكس الظروف الحاضرة في حياة يسوع المسيح. ثانيا في (يو١٤:٣١) يقول يسوع المسيح لتلاميذه[قوموا نذهب من ههنا] مما يجعلنا نظن بإنتهاء الخطابات الوداعية ولكن ذالك يستمر في (يو ١٥) و (يو ١٦) وربما كما ذكرت سابقا (يو ١٧).
هناك أيضا مجموعة أدلة أخرى على وجود أكثر من كاتب لإنجيل القديس يوحنا منها ماهو متلعق برواية القيامة كما أن الإصحاح ٢٠ والإصحاح ٢١ من المستحيل أن يكونا من كتابة الشخص نفسه.
نلاحظ أنه على الأقل هناك ثلاثة كتاب لإنجيل القديس يوحنا حتى وصل إلينا بهذه الصورة ويمكن ملاحظة ذالك من عن طريق وجود ثلاثة مراحل منفصلة مر بها تأليف الإنجيل.
المرحلة الأولى هي التي عكست التقاليد اليهودية والتي تعد هي أصل الإنجيل ومازال بالإمكان ملاحظتها بين إصحاحاته خصوصا حين يتم ذكر المهرجانات اليهودية المرتبطة بالمعبد.
المرحلة الثانية هي المرتبطة بتزايد العدواة بين تلاميذ يسوع المسيح وكهنة المعبد والمسؤولين عنه حتى تم طرد التلاميذ من المعبد. الصراع الذي تم فهمه على أنه بين المسيحيين واليهود حيث أدى ذالك إلى مايسمى معاداة السامية في وقتنا الحالي. إنجيل القديس يوحنا يعد الأكثر من بين الأناجيل عداوة لليهود ولكن علينا أن نلحظ أنهم اليهود المرتبطين بالمعبد وليس عامتهم فتلاميذ يسوع المسيح أغلبهم من اليهود.
المرحلة الثالثة هي حين بدأ أولئك الأشخاص المطرودين بالإبتعاد عن هويتهم اليهودية والتعريف عن أنفسهم على أنهم لا يعتَبرون مرتبطين بها.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment