أصيب المؤدلجون من أيتام الخلافة العثمانية وأنصار الإسلام السياسي المتمثل بحزب الإخوان المسلمين وتفرعاته وحزب التحرير الإسلامي والرئيس التركي أردوغان ومازالوا إلى يومنا هاذا بصدمة تكتونية تعادل زلزال بقوة 10 ريختر مترافقا مع هزات إرتدادية وذالك منذ سنة 2014 تاريخ صدور كتاب الباحثة الأردنية الدكتورة فدوى نصيرات بعنوان "دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876-1909)," والذي كشف بالأدلة والوثائق والأرقام حقيقة السلطان عبد الحميد الثاني ودوره في تسهيل الهجرة اليهودية لفلسطين وعملية الخداع التي مارسها هو بنفسه وأتباعه وأنصاره من بعده لتزوير الحقيقة والتستر على دورهم المشبوه في عمليات الإستيطان الصهيوني التي شكلت بداية النهاية لإبتلاع كامل أرض فلسطين وفق أساطيرهم التوراتية المزعومة.
والملاحظ من ردود أنصار أوردوغان والخلافة العثمانية هو تغليب العاطفة والبعد عن الوقائع التاريخية وإلقاء اللوم على جمعية الإتحاد والترقي ونفي جميع المصادر التي تعد بالمئات والتي إستخدمتها الكاتبة وغيرها ممن يحاولون تقديم رواية تاريخية على قدر من المنطقية والعقلانية لفترة زمنية زمنية عصيبة عاصرت فيها منطقة الوطن العربي على وجه العموم وفلسطين على وجه الخصوص أحداثا تاريخية مهدت لقيام دولة الكيان الصهيوني. حتى أن التعاطي مع الويثقة التاريخية التي يقال أن كاتبها السلطان نفسه وموجهة إلى الشيخ السوري محمود أبو الشامات شيخ الطريقة الشاذلية كان عاطفيا بدون أي بحث أو تمحيص تاريخي حيث بحثت عن دراسة تاريخية محايدة أو حتى من أنصار الإسلام السياسي لتلك الوثيقة حيث يزعم عدد من المواقع المجهولة الهوية أنها تنفرد بنشر نصها وأن عائلة الشيخ محمود أبو الشامات قاموا بتسليم الوثيقة للرئيس السوري بشار الأسد شخصيا وأنهم رفضوا بيعها رغم العروض المغرية التي عرضت عليهم, خبر لم أجد له أي مصداقية ولا أي دليل على صحته ولم يذكره أي موقع حكومي أو حتى مواقع خاصة.
إن وثيقة "أبو الشامات" عبارة عن رسالة سرية موجهة من السلطان عبد الحميد الثاني إلى شيخ الطريقة الشاذلية في الشام محمود أفندي أبي الشامات مؤرخة بتاريخ 22 أيلول 1329هجرية حيث نفى فيها السلطان عبد الحميد الثاني أي دور له في شراء الأراضي في فلسطين لصالح الوكالات الصهيونية وأنه قاوم الأطماع الصهيونية فيها وأن ذالك هو السبب الذي بموجبه تم خلعه من عرش السلطنة. الباحثة فدوى نصيرات تذكر في كتابها مجموعة من العوامل للتشكيك بصحة تلك الوثيقة بما يبرر تعريضها للمزيد من أساليب البحث التاريخي والتدقيق لمحاولة إعطاء رأي حيادي قدر الإمكان في صحة تلك الوثيقة من عدمه. من الممكن تلخيص ماذكرته الباحثة فيما يتعلق بتلك الوثيقة بالنقاط التالية:
1- الدور المركزي الذي لعبته تلك الوثيقة فيما يتعلق بمسألة هامة ومحورية في تاريخ المنطقة وهي برائة السلطان عبد الحميد الثاني من المسؤولية عن ضياع فلسطين لصالح الحركة الصهيونية العالمية حيث أدى ذالك وبحسب رأي الباحثة إلى "تجاهل أدوات التأريخ مثل التحليل, ربط الحوادث, الإستنتاج المنطقي, المقابلة المباشرة أو إستنطاق تواريخ شفوية أو سوى ذالك." بل إن الدور الذي تلعبه الوثائق في التاريخ قد تتحول كما نقلت الباحثة على لسان المؤرخ البريطاني الشهير إدوارد كار إلى "مقبرة للحقائق" متجاهلة الحقائق وعملية التحليل التاريخي.
2- هل الرسالة مكتوبة بيد السلطان نفسه أم كتبها شخص من أنصاره في مرحلة لاحقة حيث أراد تبرئة السلطان من تلك التهمة الشنيعة؟ إن هناك مجموعة أسباب للتشكيك في مصداقية تلك الرسالة وأن كاتبها هو السلطان عبد الحميد الثاني. السبب الأول أنها في مقدمها تذكر أنها جائت ردا على رسالة الشيخ محمود أبو الشامات للسلطان ولايوجد في الأرشيف سواء العثماني أو الأرشيف الأوروبي أو أرشيف أسرة الشيخ محمود أبو الشامات أي ذكر لمراسلات بين السلطان والشيخ أو أي معلومات عن طبيعة العلاقة بينهما. السبب الثاني أن الشيخ محمود أبو الشامات توفي سنة 1923 وأن السلطان عبد الحميد توفي سنة 1918, فلماذا أبقى الشيخ أبو الشامات تلك الرسالة سرا مكتوما ولم يظهرها للعلن في تلك الفترة الحرجة بل ولم تظهر الرسال أول مرة إلا سنة 1972 من قبل أحد أحفاد الشيخ. السبب الثالث هو اللغة المستخدمة في الرسالة كعبارة "تفضلوا بقبول فائق إحترامي" وهي تبدو عبارة معاصرة ولكن الباحثة ذكرت أن ذالك قد يكون ناتجا عن خطأ في الترجمة حيث لم ينشر للأن النص الأصلي للوثيقة مكتوبا بخط يد السلطان والمنشور هو ترجمة باللغة العربية. كما ذكرت الباحثة أن توقيع تاريخ كتابة الرسالة هو أيلول من نفس السنة مع ذكر تاريخ السنة بالهجري, فلماذا لم يستخدم السلطان الشهر الهجري المناظر لأيلول وهو شهر رمضان.
ولا يستبعد تحليل المؤرخة لمسار الأحداث في تلك الفترة التاريخية أن الهدف من كتابة تلك الوثيقة مع إقتراض صحتها هو تصفية حسابات سياسية بين السلطان وخصومه. السلطان عبد الحميد قام بإرسال تلك الرسالة إلى الشيخ محمود أبو الشامات وليس إلى أحد وزرائه أو رجال الدولة الموثوقين لمعرفتهم بتاريخ مفاوضاته مع الحركة الصهيونية العالمية ممثلة بتيودور هرتزل بينما سوف تحكم العاطفة الشيخ أبو الشامات خصوصا بعد مقدمة الرسالة بما فيها من تبجيل والتي تلعب على أوتار العاطفة الدينية. وتضع الكاتبة العديد من علامات الإستفهام حول محتوى الرسالة خصوصا ماذكره السلطان أن عزله كان بسبب رفضه التخلي عن فلسطين, وتسأل عن أسباب عدم التنازل عنها بعد إسقاطه وخلعه خصوصا أن من تولى السلطة من بعد هو محمد السادس ومن ثم من بعده عبد المجيد الثاني أخر الخلفاء العثمانيين و كانا مجرد دمى بيد جمعية الإتحاد والترقي فلماذا لم تقم تلك الجمعية بفتح باب الهجرة الصهيونية لفلسطين بدلا من خوض حروب ومعارك خصوصا وأن سقوط القدس بيد القوات البريطانية تأخر بسبب مقاومة الحامية العثمانية.
السلطان عبد الحميد الثاني, وكما ذكرت المؤلفة, كان على مستوى من الذكاء والنباهة ومتابعا مستمرا لوسائل الإعلام خصوصا الأجنبية التي كان يأمر بترجمة ملخصات لأهم المواضيع الواردة فيها والتي لها علاقة بالسلطنة العثمانية وبالتالي مدركا لأبعاد المؤامرة الصهيونية خصوصا مع تزايد المستعمرات الصهيونية في فلسطين خلال فترة حكمه وتزايد عدد سكانها وعن عدم إتخاذ السلطان إجرائات حازمة لوقف الهجرة الصهيونية لفلسطين.إن مناقشة صحة تلك الوثيقة والتي إحتلت مكانة مركزية في دفاع أنصار السلطان عبد الحميد الثاني عن التهمة الموجهة ضد بالتخلي عن فلسطين ليست هي الإشكالية الوحيدة التي ناقشتها المؤرخة والكاتبة الأردنية فدوى نصيرات بل تمتلئ صفحات الكتاب بالأدلة والمراجع التي أوردتها الكاتبة لدعم وجهة نظرها بإعتبارها باحثة تاريخية ومؤرخة تحمل شهادتي البكالوريوس والماجستير في التاريخ من جامعة اليرموك في الأردن ودكتوراه فلسفة في التاريخ من الجامعة الأردنية. الكتاب أكثر من رائع ويعد من نوعية الكتب التي تناقش مسائل مسكوت عنها تاريخيا حتى أنها تحولت إلى مسلمات مقدسة تؤخذ بالإيمان وليس عن طريق البحث والتدقيق التاريخي كما يفترض بذالك منطق التعامل مع تلك المسائل الحساسة.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment