هناك مسألة حيرت خبراء الإقتصاد وهي متعلقة بأسعار النفط وزيادة الطلب من سنة ٢٠٠٠ وصولا إلى الأزمة الإقتصادية التي بدأت بإنهيار سوق الرهون العقارية سنة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ في الولايات المتحدة. سؤال يطرحه الجميع عن السبب الذي جعل قوانين العرض والطلب تعمل بعكس ماهو متوقع من حيث تأثيرها على حركة أسواق النفط؟
في الفترة التي سبقت الأزمة الإقتصادية إلى سنة ٢٠٠٨ فقد وصل سعر برميل النفط إلى مستوى سعري ١٥٠ دولار قبل أن يبدأ بالتأثير على الأسعار وإنخفاض مستوى الطلب. وحتى نعلم سبب الإستغراب فما علينا إلا أن نلاحظ أن الطلب على النفط في الولايات المتحدة لم يرتفع تقريبا منذ سنة ٢٠٠٥ حين وصل سعر البرميل إلى حاجز ٥٠ دولار.
الجواب على تلك التسائلات هو بسيط في ذاته وهي أنه في كثير من البلدان خصوصا المنتجة للنفط فإن الأسعار تعد نسبة بسيطة من الأسعار العالمية وبالتالي فإن سكان تلك البلدان ليسوا ملزمين بقوانين السوق التي تحكم العرض والطلب.
هل تذكرون قانون الكمية صفر (Sum Zero)؟
في ذروة الأزمة الإقتصادية فإن هناك دول مثل الصين والهند سوف تكون سعيدة بإنخفاض إستهلاك النفط في دول أخرى مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا حيث سوف تقوم بشراء تلك الكميات الإضافية المتوفرة. السبب لا يعود للنمو الإقتصادي الذي تباطئ في الكثير من البلدان حتى الصين والهند بل أعداد هائلة من السائقين على الطرقات حيث تذهب نسبة كبيرة من النفط المستورد.
مانسبته ٩٠% من النفط المستهلك في العالم يكون على شكل وقود لوسائل المواصلات مثل البنزين والديزل. إذا أردنا أن نعرف السبب في زيادة إستهلاك الوقود في الدول النامية فما علينا إلا أن ندرس الإحصائيات المتعلقة بنمو نسبة مبيعات السيارات فيها.
في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية فإن نسبة النمو في مبيعات السيارات لا يزيد عن ١% أو ٢% وذالك حين تكون تلك الدول في حالة نمو إقتصادي. بينما في دول مثل روسيا, الصين, الهند, البرازيل والتي هي جزء من مجموعة دول(Brics) فقد تتجاوز نسبة النمو في مبيعات السيارات ١٠% وقد تصل إلى ٢٠% تحت نفس الظروف الإقتصادية.في روسيا والبرازيل مثلا سنة ٢٠٠٧ فقد بلغت نسبة النمو في مبيعات السيارات ٣٠% بينما في الهند بلغت ٢%. في بدايات سنة ٢٠٠٩ فإن سوق مبيعات السيارات في الصين تجاوز الولايات المتحدة التي ينتظر عودة سوق مبيعات السيارات بعد مرور فترة الكساد على إثر أزمة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ بما لا يتجاوز نصف حجمه سابقا.
إن نمو سوق مبيعات السيارات في الكثير من الدول يتأثر بالقدرة على توفير ثمن شراء السيارة حيث يؤخذ ذالك بالحسبان أكثر من إرتفاع أو إنخفاض سعر النفط. نمو مستوى الدخل في دول مثل الصين والهند البرازيل حيث تشهد نموا إقتصاديا غير مسبوق ومشاريع بنية تحتية ضخمة من الطرق والكباري والجسور بين المدن, وإذا أضيف إليه سعر سيارة في حدود ٢٥٠٠ دولار مثل (Tata) التي تنتجها الهند, فإن ذالك يعني تشجيع المزيد من المواطنين الذين لم يسبق لهم القيادة على إقتناء مركبتهم الأولى. إن تلك العوامل تدفع العديد من الشركات مثل نيسان, فولكسفاجن, فورد, تشيري(Chery) الصينية لتطوير سيارات بسعر مبيع ١٠ ألاف دولار أو أقل. سيارة النانو(Nano-Tata) التي تنتجها الهند وتتكلف ٢٥٠٠ دولار تعد بمثابة كابوس للبعض أو الحلم تحقق على أرض الواقع بالنسبة للبعض الأخر, ذالك بالإعتماد على الزاوية التي ينظر فيها للموضوع.
الحقيقة التي قد لا يعلمها الكثيرون أنه مقابل كل سيارة (Cherry) أو (Tata-Nano) تسير على طرقات الصين أو الهند فإن هناك سيارة في الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا سوف يكون مكانها أمام منازل أصحابها. قد يظن البعض أن ذالك مزحة ولكنها حقيقة واقعة فمن أين سوف يأتي نفط ليكفي ملئ خزانات سيارات لجميع سكان الكرة الأرضية؟
الدول الذي يعد مواطنوها هم الأكثر حساسية للتقلبات السعرية في أسواق النفط هي التي سوف تكون الأكثر تأثرا والولايات المتحدة على رأس تلك الدول حيث إنخفض الطلب على الذهب الأسود خلال أزمة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ بصورة حادة وقد حافظ على مستوى طلب ثابت وعدم نمو منذ سنة ٢٠٠٥ وصولا إلى إلى سنة ٢٠٠٨. دول أخرى منتجة للنفط من منظمة أوبك قد نما فيها الطلب بنسبة ٥% سنويا بين سنتي ٢٠٠٤ و٢٠٠٧ حيث بقي ذالك غير ملفت للنظر من قبل الخبراء. تلك الزيادة في الإستهلاك ونمو الطلب في السوق الداخلي سوف يقابلها تناقص في الكمية التصديرية مما يعني زيادة الأزمة في حال إنتهاش أسواق النفط وبالتالي زيادة الطلب مقارنة بالمعروض.
في الشرق الأوسط أو الدول المنتجة للنفط فإن الأمر غير متعلق بتكلفة المركبات أكثر مما هو متعلق بتكلفة ملئها بالوقود, فالطرق في الكثير من دول الشرق الأوسط تسير عليها أفخم أنواع السيارات مثل بنتلي ومرسيدس-بنز وبي إم دبليو. في فنزويلا قد يبلغ سعر جالون من الوقود مايعادل ٢٥ سينت أمريكي وفي دول مثل إيران والمملكة العربية السعودية مابين ٤٥-٥٠ سينت أمريكي, أي ما لايزيد عن نصف دولار للجالون. لو كانت أسعار الوقود في تلك المستويات في دول مثل أمريكا وفرنسا وبريطانيا لما إنخفض إستهلاك الوقود حتى أثناء فترات الركود الإقتصادي, ولكن سكان تلك البلاد لن يشهدوا عودة الأسعار إلى تلك المستويات.
القرار بإبقاء أسعار الوقود منخفضة في الكثير من الدول المنتجة للنفط هو قرار سياسي بالدرجة الأولى وليس متعلقا بإرتفاع أو إنخفاض أسعار النفط على المستوى العالمي. في دولة مثل إيران وهي تعد رابع أكبر منتج للنفط على مستوى العالم فإن محاولة حكومة الرئيس أحمدي نجادي رفع أسعار الوقود في صيف ٢٠٠٧ قد تسببت بإضطرابات ومظاهرات تم خلالها حرق عدد من محطات الوقود. الحكومة الإيرانية قامت على إثر ذالك بإلغاء قرار الزيادة خوفا من إشتعال الإضطرابات وخروجها عن السيطرة.
على كل حال فإن نقص الوقود في إيران لا يعد أمرا جديدا حيث البلاد بفترات سمتها الرئيسية هي نقص الوقود, وقد يستغرب البعض ذالك في إيران وهي دولة منتجة ومصدرة للنفط ولكن تعد في الوقت نفسه دولة مستوردة للمشتقات النفطية مثل البنزين. سنين من النمو المتواصل للطلب على المشتقات النفطية بنسبة ٥% سنويا قد ترك إيران تعاني من عجز في تلبية ذالك الطلب المتزايد نتيجة تقادم منشئات تكرير النفط لديها.
وفي الحقيقة فإنه عندما يتعلق الأمر بدعم الوقود محليا فإنه لا أحد يستطيع هزيمة نظام الرئيس الفنزويلي الراحل هيوجو شافيز والذي أورث سياسة الدعم تلك لخليفته نيكولاس مادورو. ففي أيام تشافيز كان الدعم لا يقتصر على المواطنين في فنزويلا بل في الدول الحليفة مثل كوبا ونيكاراجوا بل وكان هناك إتفاق مع إسبانيا. ولكن صدق أو لا تصدق فإن الدعم الفنزويلي قد وصل حتى إلى أسر منخفضة الدخل في أمريكا على شكل دعم لوقود التدفئة للمنازل في الشتاء القارس.
إرتفاع أسعار النفط قد يكون أخبارا سارة للدول المنتجة للنفط ولكن هل يكون التصدير على حساب الإستهلاك الداخلي؟ ١١٠ دولار للبرميل مقابل ٥٠ سينت سعر جالون وقود السيارات قد يجعل المفاضلة ينهما خيارا صعبا, الإستهلاك الداخلي أم التصدير؟ دول مثل إيران والمملكة العربية السعودية وفنزويلا قد تواجه خيارات صعبة في المستقبل بينما دول مثل النرويج تعد مصدرة للنفط لن تواجه مشكلة حيث مواطنوها يدفعون أسعارا للوقود تعادل الأسعار العالمية. دول مثل الصين والهند لا تستطيع دعم أسعار الإستهلاك المحلي للوقود كفنزويلا لأنها في النهاية دول مستوردة لنسبة كبيرة من إحتياجاتها النفطية, ولكن على الرغم من ذالك فإنهم يجدون أنفسهم أمام خيارات صعبة بالإبقاء على نوع من الدعم وإن لم يكن بمستوى ٢٥ سينت أمريكي لجالون الوقود. الإحصائيات تذكر أن ٢٥%, يعني الربع, من النفط المنتج عالميا يتم إستهلاكه داخليا من قبل مانسبته ٥٠%, أي نصف سكان العالم. كلما زاد إستهلاك الوقود داخليا في مجموعة من الدول المنتجة للنفط فإن ذالك يعني إنخفاض الكميات المخصصة للتصدير مما يؤدي إلى إرتفاع الأسعار مالم تتخذ تلك الدول قرارا بزيادة الإنتاج لتعويض الفرق الذي يتم تخصيصه للإستهلاك الداخلي.
هناك نقطة مهمتان لا نستطيع إلا المرور عليهما, فالأولى متعلقة بمفهوم خاطئ عن العلاقة بين عدد السكان وإستهلاك النفط للفرد. في الولايات المتحدة وكندا يبلغ معدل إستهلاك النفط للفرد ٢٥ برميل و ٢٩ برميل على التوالي بينما الصين والتي يبلغ عدد سكانها أربع أو خمسة أضعاف سكان الولايات المتحدة وحوالي أربعين ضعف سكان كندا, فإن إستهلاك النفط فيها يبلغ عدد ٢ برميل للفرد. دولة مثل الهند يبلغ معدل الإستهلاك للنفط فيها عدد ١ برميل للفرد. إن ذالك ساعد على الإبقاء على نوع من دعم إستهلاك الوقود محليا في كلتا الدولتين.
الهند تنفق عشرة مليارات تقريبا على دعم الوقود سنويا وهو مبلغ كبير نسبيا ولكن ليس بأكثر من المبالغ التي تنفقها الولايات المتحدة سنويا كدعم لوقود الإيثانول المستخرج من نبات الذرة.
النقطة الثانية هي المتعلقة بنسبة العجز في أي دولة وتأثير ذالك على دعم الإستهلاك المحلي للوقود فمثلا الصين تبلغ نسبة العجز ١% مما يتيح للحكومة هامشا للتحرك بخصوص دعم الإستهلاك المحلي من الوقود بينما قد تبلغ في الولايات المتحدة ١٠% مما يجعل توفر دعم مماثل للمواطن الأمريكي حلما بعيد المنال.
زيادة الإستهلاك المحلي للنفط تعني إرتفاع سعره عالميا مما يؤدي إلى عالم أصغر. عالمنا الكبير الذي نغيش فيه ينكمش.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment