إن إعتبار إنجيل القديس يوحنا له جذور صوفية ليس أمرا معاصرا بل يعود للقرن الثاني الميلادي حيث أن القديس كليمنت الإسكندري أطلق عليه الإنجيل الروحاني في مسعى للتفريق بينه وبين الأناجيل الأخرى. وفي القرن الثالث فإن عالم اللاهوت أوريجون أطلق إسم الإنجيل الباطني.
هناك أراء لعلماء في اللاهوت في أن إنجيل القديس يوحنا ينتمي لما يعرف بمدرسة الميركابا الباطنية(Merkabah Mysticism) وهي مذهب يهودي ظهر في أواخر القون الأول ميلادي وهي الفترة التي كتب فيها الإنجيل والتي تعود إليها وثائق البحر الميت بينما ترى أراء أخرى أن تطور تلك المدرسة الباطنية اليهودية كان لاحقا لتاريخ كتابة الإنجيل بفترة طويلة.
المشكلة التي يعاني منها الكثيرون في محاولتهم لفهم إنجيل القديس يوحنا هي أنه ينتمي للصوفية اليهودية والتي هي تعد حركة باطنية تعتبر هرطقة حتى داخل اليهودية نفسها كما أنه تمت محاربتها وملاحقة أتباعها. المسيحيون الأوائل الذي تمكنوا من فهم إنجيل القديس يوحنا, كإنجيل يمثل الصوفية اليهودية وقد حققوا بفضل ذالك مكانة كبيرة في التاريخ المسيحي خصوصا في الفترة التي سبقت مجمع نيقية سنة 325م. وعلى الرغم من أن قانون الإيمان المسيحي الذي تم إعلانه إثر إنتهاء إجتماع نيقية قد إستند بشكل كبير على إنجيل القديس يوحنا ولكن بعد إنتهاء اعمال المجمع فقد تم إهمال الإنجيل بشكل كبير وذالك يعود إلى طبيعته الصوفية\الباطنية حيث لم تكن تعاليمها تحظى بشعبية في الفترة التي تلت سنة 325م.
ولكن السؤال هو كيف تمكنت الباطنية من التسلل للديانة اليهودية وتحولت لحركة صوفية عالمية التعاليم؟
من ينظر لتاريخ البشرية يجد أن تغير فهم الإنسان لطبيعة الإله ووظيفته ليست حكرا على الشعب اليهودي الذي نظر للإله بداية كمعزي من ظلم العبودية في مصر ثم المدافع والحامي للشعب اليهودي أثناء سنوات التيه في صحراء سيناء ثم صورة الإله المحارب الذي ساعده شعبه للقضاء على أعدائهم الكنعانيين ثم الإله الذي حافظ على شعبه أثناء سنوات السبي البابلي ثم الإله الذي عملت إرادته من خلال الملك الفارسي كورش الكبير على إرجاع اليهود إلى أرض ميعادهم وإعطائهم الأموال لبناء الهيكل في القدس من جديد.
إذا نظرنا لتاريخ الشعوب فسوف نكتشف أن نظرة تلك الشعوب للإله وطبيعته ليست جامدة حيث كانت تلك القبائل تمارس الصيد كنشاط أساسي والذي كان يفرض عليها التنقل والترحال من مكان لأخر ثم بدأت مرحلة الإستقرار والمجتمعات الزراعية وبرزت الحاجة لألهة مرتبطة بالأرض والزراعة. ومع مرور الوقت فقد تطورت ونمت تلك المجتمعات وتجاورت وحصل تنافس فيما بينها أدى إلى غزوات متبادلة وأصبحت الأولوية حماية الأرض والتي هي تعتبر مصدر بقاء القبيلة الأساسي وفي هذه المرحلة برز دور زعيم القبيلة الذي كان الجميع يلتف حوله في أوقات الحروب والشدة حيث تم إعتباره تجسيدا للإله ويمتلك قدرات خارقة أو هو نفسه الإله. هناك مثالان على الحالة الأخيرة وهي الحكم بالحق الإلهي من قبل ملوك أوروبا حيث تم إعتبار الملك ممثلا لله ولايجوز مناقشة قراراته وفي اليابان حيث تم إعتبار الإمبراطور مخلدا وإبن الله.
إن تطور المجتمعات البشرية وتقاربها قد ساعد في تطور فكرة الإله كما ذكرت في السطور السابقة إلى مرحلة الإله العالمي الواحد, الشعب اليهودي لم يكن يشكل حالة إستثنائية في نظرته لمفهوم الإله ووصوله لمرحلة عبادة الإله الواحد وإعتبار ماعدا ذالك هرطقة. إن نظرة سريعة لنصوص العهد القديم تؤيد كل ماسبق أن ذكرت. في الفترة الزمنية التي تلت السبي البابلي وعودة اليهود لأرض ميعادهم المزعومة فقد مالت الكفة لصالح نصوص قانونية مكتوبة وأصبح دور الأنبياء في الحياة والطقوس اليهودية ثانويا إلى أن صمت بشكل نهائي في مرحلة لاحقة. حتى النظرة اليهودية لمفهوم الإله فقد تغيرت في المرحلة التالية وهي مرحلة إعتمدت على مجموعة نصوص وتقاليد تسمى نصوص الحكمة حيث كانت تلك مرحلة إنكسار وليس إنتصار ولم يشعر الشعب اليهودي بالإله ووجوده كما شعروا به في مراحل سابقة وخصوصا حين كانوا ينتصرون على أعدائهم في الحروب. كتاب سفر الأمثال في العهد القديم هو أحد الأمثلة الواضحة على مجموعة نصوص الحكمة كما أن نص أمثال 8: 1-3 (1)ألعل الحكمة لا تنادي ؟ والفهم ألا يعطي صوته (2) عند رؤوس الشواهق، عند الطريق بين المسالك تقف (3) بجانب الأبواب، عند ثغر المدينة، عند مدخل الأبواب تصرح.
إن تلك المرحلة التي إعتمدت على تلك النصوص أحدثت تغيرا كبيرا في مفهوم الإله حيث تم مساواة الحكمة بالوحي الإلهي وأصبح التسائل عن ذالك الإله العالمي الذي حدوده أكبر من الكون كله وكيف تكون مكانته محصورة في مساحة صغيرة من هيكل سليمان.
إن مقدمة إنجيل يوحنا تعد ترنيمة في سبيل الكلمة كما أن أمثال(8: 21-32) تعد ترنيمة في سبيل الحكمة ومقارنة بسيطة بين النصين تثبت أن مؤلف إنجيل يوحنا أو على الأقل المقدمة هو يهودي وكتابات الحكمة وعلى رأسها سفر الأمثال تعد بوابة دخول الصوفية\الباطنية للديانة اليهودية. كما أن الحلم الذي راود إسرائيل(يعقوب) في سفر التكوين 28 وإقتباس ذالك النص على لسان يسوع المسيح في إنجيل القديس يوحنا 1:51 ,نص سفر الخروج 33: 17-24, نص أشعياء(6:5), حزقيال(1:15), كتاب حزقيال (37) ودانيال (7) ليست إلا أمثلة أخرى على نصوص تمثل الصوفية\الباطنية في الديانة اليهودية.
إن العبارة الواردة في نص إنجيل القديس يوحنا(1:14)(والكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدا كما لوحيد من الآب، مملوءا نعمة وحقا) تعني أنه في حياة يسوع المسيح رأي الناس إرادة الله تتحقق من خلاله كما سمعوا كلمة الله من خلال البشارة التي أعلنها يسوع المسيح بإقتراب الملكوت.
إن النصائح الواردة في إنجيل القديس يوحنا والموجهة للمستمعين بخصوص الولادة من جديد أو الولادة من الروح ليس الهدف منها الدعوة إلى تجربة هداية جديدة تجعلهم يحسون بانهم متفوقون روحيا على الأخرين بقدر ماهو الهدف منها الوصول لدرجة من الوعي تجعلهم أنفسهم كأنهم جزء من صورة الإله وإنعكاس لها.
إن يسوع المسيح في إنجيل القديس يوحنا كان يمثل حالة من الإتحاد بين الحياة البشرية والرب فالمسيح كان يمثل كلمة الرب وحكمته في الوقت نفسه حيث كانت تلك الصورة التي تم وصفه بها في الإنجيل الرابع. ولكن المثير في الموضوع هو أن كلمة لوجوس لم تستخدم في الإنجيل بإستثناء مقدمته التي كان الهدف منها هو أن ينظر إلى الرب(صاحب الكلمة) والكلمة كوحدة واحدة.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment