ولا يتم الحديث عن الأزمة المالية العالمية وإفلاس البنوك وإنقاذها بدون المرور على العلاقة بين أمريكا والصين حيث تعد الصين أكبر مقرض لأمريكا وتمتلك الصين أصولا مالية أغلبها على شكل سندات حكومية تبلغ ثلاثة تريليون دولار أكثر من نصفها بالدولار الأمريكي.
السؤال هنا ماذا لو توقفت الصين عن إقراض أمريكا أو شراء السندات التي تصدرها الحكومة الأمريكية؟
الجواب هو أنه لا مكان للمشاعر في عالم السياسة, الحكومة الصينية من مصلحتها شراء السندات التي تصدرها السلطات المالية المختصة في أمريكا لإبقاء مستوى الطلب على الدولار مرتفعا وبالتالي إبقاء التوازن بين سعر صرف الدولار واليوان لمصلحة الدولار لكون الصين دولة تعتمد على التصدير بشكل رئيسي ومن مصلحتها كما ذكرت سابقا إبقاء قيمة عملتها منخفضة نسبيا. إذا توقفت الصين عن شراء السندات الحكومية الأمريكية فسوف يؤدي ذلك إلى إنخفاض قيمة الدولار مقابل اليوان الصيني نتيجة انخفاض الطلب على الدولار وقد يؤدي ذلك إلى إنهيار العملة الأمريكية التي لا تتمتع بغطاء ذهبي يحميها في تلك الحالات كما كانت في السابق وسوف تكون ذلك بداية أزمة مالية ومصرفية كبرى لن تترك بلدا بدون أن تطاله أثارها. إن المسؤولين في البنك المركزي الصيني(بنك الشعب) قاوموا فكرة رفع قيمة اليوان مقارنة بالدولار ولجأوا في سبيل مكافحة التضخم لمجموعة خيارات منها رفع مستوى الفائدة وتشديد إجراءات الإقتراض داخل الصين.
على الرغم من إتساع السوق الصينية وقدرتها الإقتصادية و تمتعها بميزة العمالة الرخيصة والمدربة ومصادر الطاقة فإنه حتى بلد بحجم الصين لن ينجو من التضخم وآثاره حيث سجل في بعض السنين تضخم ٦% ويعود السبب بشكل رئيسي إلى ارتفاع أسعار النفط لمستويات قياسية. إن أحد أسباب التضخم في الصين بالإضافة إلى إرتفاع الفاتورة النفطية هو إرتفاع الأجور حيث مع الإنفتاح على الخارج وازدياد نسبة الصادرات فقد أصبح العمال يطالبون بأجور أعلى وظروف عمل أفضل مما رفع الكلفة النهائية للإنتاج.
ولكن كيف تواجه الصين ارتفاع مستوى التضخم؟
الحل بسيط ويعتمد على مجموعة أسس منها رفع قيمة اليوان الصيني فتقل فاتورة الصادرات وخصوصا النفطية, رفع مستوى الأجور مما يرفع القدرة الشرائية للمواطن الصيني والاتجاه نحو تشجيع الإستهلاك الداخلي واتلبية حاجات السوق المحلية بدلا من التركيز على التصدير حيث أن السوق الصينية تعد ١.٣ مليار مستهلك. هناك مجالات ضخمة للاستثمار في الصين والاتجاه نحو إشباع حاجات الإستهلاك الداخلي فمثلا تعد ملكية المواطنين للسيارات في الصين ١/١٠(عشر) ما هي عليه في الولايات المتحدة. ولو أرادت الصين أن ترفع قيمة عملتها في مواجهة الدولار لكان بإمكانها القيام بخطوتين رئيسيتين وهما التوقف عن الإشتراك في مزادات شراء سندات الخزينة الحكومية الأمريكية وطرح مالديها من سندات في السوق. إن الخطوة الثانية سوف تسرع عملية رفع قيمة اليوان بشكل سريع حيث تنخفض قيمة الدولار لتوفره في الأسواق المالية حيث تحتكم الحكومة الصينية على حوالي ثلاثة تريليون عملات أجنبية نصفها بالدولار الأمريكي.
فما ما هو تأثير ذلك على المواطن الأمريكي العادي؟
إن إنخفاض قيمة الدولار يعني أن الولايات المتحدة سوف ترتفع قيمة خدمتها للدين الخارجي الذي سوف يلتهم حصة أكبر من الناتج الإجمالي المحلي ويبقى القليل للمشاريع الخدمية كالتعليم والصحة وأيضا مشاريع البنية التحتية مثل محطات تنقية المياه والصرف الصحي. كما أن من تأثيرات انخفاض قيمة الدولار هو ارتفاع تكلفة الاقتراض لإرتفاع نسبة الفائدة على القروض وإصدار السندات الحكومية مما سوف يصاحبه ارتفاع سعري في كل شيء بداية الرسوم الشهرية على الحسابات البنكية وتكلفة شراء سيارة بالتقسيط و تكلفة إستيراد المنتجات والخدمات. خلال أزمة الكساد العظيم التي مرت بها الولايات المتحدة سنة ١٩٣٣ قامت الحكومة الأمريكية بالتدخل بإجراء تخفيض في قيمة الدولار الأمريكي مقابل الذهب وبالتالي تشجيع الصادرات وتشغيل المصانع المحلية مما أدى إلى خلق فرص عمل وإنخفاض نسبة البطالة بشكل تدريجي ولكن كيف تتصرف الحكومة الأمريكية في الوقت الحالي بعد رفع الغطاء الذهبي عن الدولار أثناء فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون؟
في تلك الحالة تقوم الحكومة الأمريكية بطبع المزيد من الدولارات وضخها في السوق مما يؤدي إلى إنخفاض قيمة الدولار وفق مبدأ العرض والطلب.
المشكلة في حال قررت الحكومة الأمريكية سلوك هذا الطريق فإنها سوف تكون قادرة على الإستمرار في دفع ديونها ولكن قيمة تلك المدفوعات بالنسبة للدائنين سوف لا تكون تساوي الكثير من القيمة مما سوف يؤدي إلى اهتزاز الثقة بالدولار الأمريكي وعزوف الدول عن شراء سندات الخزانة التي تصدرها الحكومة الأمريكية. وقد يظن البعض أن إنخفاض قيمة الدولار سوف تشجع سوق التصدير في أمريكا ولكن علينا أن لا ننسى أن سوق الصادرات في أمريكا لا يشكل إلا ربع الناتج الإجمالي المحلي وليس كما كان الوضع سنة ١٩٣٣ وفي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
إن الطريقة التي يتم فيها التعامل مع مشكلة الدين الحكومي والتضخم قد تختلف بين الأحزاب السياسية في أمريكا فمثلا حزب الشاي الأمريكي له وجهة نظر بخصوص تحجيم دور النقابات العمالية لتخفيض الإمتيازات الممنوحة لمنتسبيها بينما ترتكز سياسة الحزب الديمقراطي على تقليل الإعفاءات الضريبية الممنوحة للشركات النفطية والشركات الكبرى في محاولة لزيادة نسبة مساهمة الأغنياء في العائدات الضريبية بينما تدور سياسة الحزب الجمهوري على تشجيع الإنجازات الفردية وتأكيد دور الأسواق الحرة في الإزدهار الإقتصادي مما يعني عدم تدخل الحكومة في السوق وترك ذلك لعوامل العرض والطلب.
إن الكثير من الحكومات تلجأ لخيار مثل حزمات الإنعاش الإقتصادي وقد لاحظنا ذلك بوضوح خلال الأزمة المالية سنة ٢٠٠٧-٢٠٠٨ في دول مثل أمريكا وبريطانيا واليابان ولكن تلك الحكومات استيقظت على كابوس أزمة مالية استنفذت أغلب السيولة الموجودة وتم تغطية المبالغ المطلوبة بالاقتراض وتلك القروض يجب دفعها. إن عجز العالم عن مواجهة أي أزمة مالية قادمة لاستنفاذ السيولة قبل مرور عشرة سنين غير منقطعة من الإنتعاش الإقتصادي ليتم تعافي الإقتصاد العالمي استعدادا لما هو قادم سوف يكون له نتائج أكثر من كارثية يضاف إليها أن تلك السنين العشرة من الإنتعاش الإقتصادي تتطلب إنخفاض أسعار النفط إلى مستويات معقولة وهو لا يبدو احتمالا في القريب العاجل.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment