إن الولايات المتحدة قد بأت منذ ماقبل نهاية الحرب العالمية الثانية برسم ملامح نظام مالي وإقتصادي عالمي يكون الدولار الأمريكي في قلبه ويلعب دورا رئيسيا ومركزيا. البداية كانت من إتفاقية بريتون-وودز حيث قبلت الدول الأوروبية تحت ضغط الحاجة للمساعدة الإقتصادية والعسكرية الأمريكية بالدولار الأمريكي كعملة إحتياطية عالمية مقابل أن يكون قابلا للمبادلة بالذهب بسعر 35 دولار أمريكي للأونصة. أوروبا المثقلة بجراح الحرب وببنية تحتية مدمرة كانت تحتاج وبشدة لأموال خطة مارشال الأمريكي لإعادة الإعمار وبسبب ذالك لم يكن هناك مشكلة في أن يصبح الدولار الأمريكي ملك العملات او الدولار الملك(The King Dollar). ومع مرور الوقت, تمكنت أوروبا ودول أسيوية كاليابان من تجاوز أثار الحرب وإعادة إعمار بنيتها التحتية والصناعية وتراكمت لديها إحتياطيات من الدولار نتيجة التجارة مع الولايات المتحدفالميزان التجاري كان يميل لصالح الدول الأوروبية خصوصا في قطاع السيارات. الولايات المتحدة كانت قد تورطت في حرب فيتنام وزادت نفقاتها العسكرية ونفقات دولة الرفاه الإجتماعي خلال عهد الرئيس ليندون جونسون فبدأت بطباعة كميات هائلة من الدولار بدون تغطية ذهبية كافية بالمخالفة لشروط الإتفاقية فكانت ردة الفعل الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا بتحويل إحتياطيها المتراكم من الدولارات إلى ذهب مما أجبر الولايات المتحدة خلال عهد الرئيس ريتشارد نيكسون سنة 1971 إلى إيقاف العمل بإتفاقية بريتون وودز حيث إتهم دولا أوروبية بشن حرب تجارية وإقتصادية ضد بلاده.
وخلال تلك الفترة , فقد تم تعويم سعر صرف الدولار الأمريكي أمام العملات الأخرى وإنخفض سعر صرفه بنسبة تقدر 40% مما أدى إلى موجة تضخم على المستوى العالمي وصدمة للكثير من الدول التي تضررت بشدة من تلك الخطوة. ولكن عبقرية ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر قد أدت إلى فكرة للحفاظ على مركز الدولار كعملة إحتياطية عالمية وبالتالي الحفاظ على الهيمنة الإقتصادية الأمريكية, فبدلا من الربط بين سعر الذهب وسعر صرف الدولار الأمريكي, فقد تمكن من إقناع مجموعة من الدول المصدرة للنفط وعلى رأسها المملكة العربية السعودية من الإمتناع عن بيع النفط إلا مقابل الدولار الأمريكي مما أبقى الطلب على الدولار مرتفعا وأدى إلى تحسن في سعر صرفه أمام العملات الأخرى. التحولات الإقتصادية في الولايات المتحدة خلال بداية الثمانينيات وإنتشار مفاهيم كالعولمة وإتفاقية التجارة الحرة كالجات(GATT) ومنظمة التجارة العالمية(WTO) التي تم تأسيسها سنة 1995, قد ادى إلى تحول نحو الثقافة الإستهلاكية حيث أصبحت الولايات المتحدة أكبر سوق للبضائع الإستهلاكية وأكبر مستورد لها في العالم. الشركات الأمريكية المشبعة بمفاهيم الربحية والمنفعة الذاتية قد قامت بنقل مصانعها خارج الولايات المتحدة خصوصا في الصين, الهند ودول أسيوية أخرى وكذالك في دول أمريكا اللاتينية كالمكسيك حيث تتوفر العمالة الرخيصة والمدربة وكذالك الإعفائات الضريبية. ومن أجل إستمرار إنتعاش سوق الصادرات, فإن تلك الدول كانت تقوم بشراء أدوات مالية مقومة بالدولار الأمريكي أهمها السندات الحكومية التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية مما أبقى الطلب على الدولار الأمريكي مرتفعا وبالتالي الحفاظ على سعر صرفه المرتفع أمام العملات الاخرى.
إن تحول الإقتصاد الأمريكي نحو الإستهلاك وتحول عدد كبير من الدول للإعتماد على السوق الأمريكي كسوق تصدير رئيسية لتحقيق فائض تجاري إيجابي ودعم إحتياطاتها من العملات الصعبة وعلى رأسها الدولار الأمريكي, قد أدى إلى حالة من الإعتماد على السوق الأمريكي وصلت لمستويات تهدد بازمة إقتصادية سوف تعاني منها تلك الدول في حال تباطئ الإقتصاد الأمريكي أو التحول من ثقافة الإستهلاك نحو التصنيع والإدخار وهو مايحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القيام به حيث أعلن عنه خلال حملته الإنتخابية. فدونالد ترامب قد فهم بذكاء حجم المرارة لدى الشعب الأمريكي بسبب فقدان عدد كبير من الوظائف نتيجة إنتقال الشركات الأمريكية إلى دول كالمكسيك والهند والصين وخسارة الولايات المتحدة لقاعدتها الصناعية حيث يكافح ماتبقى من شركات للبقاء. أجندات الرئيس الأمريكي كانت بسيطة وواضحة, على الشركات الأمريكي العودة وإفتتاح مصانعها في الولايات المتحدة وعلى الصين أن تتجاوب مع المطالب الأمريكي حول مجموعة من المسائل لعل أهمها المتعلق بسعر صرف اليوان مقابل الدولار الأمريكي. دونالد ترامب الذي يتصرف بحسب أراء بعض المحللين بطريقة غير متوازنة لم يسلم من تهديداته حتى دولا حليفة ككندا التي ردت على فرض الرئيس الأمريكي رسوما جمركية على وارداتها من الحديد 25% والألومنيوم 10% بفرض ضرائب بقيمة 300 مليون دولار كندي على واردات أمريكية بقيمة تزيد عن 16 مليار دولار كندي(12.6 مليار دولار أمريكي). ولكن الرئيس الأمريكي تراجع في وقت لاحق مستثنيا كندا والمكسيك بعد تعرضه لضغوطات من شركات أمريكية ولوبيات مصالح نافذة تضررت مصالحها التجارية من تلك القرارات.
إن القرارات الأخيرة التي إتخذها الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألومنيوم للولايات المتحدة قد توسعت لاحقا لما يوصف بأنه حرب تجارية لتشمل الصين بفرض رسوم جمركية على واردات صينية للسوق الأمريكية بقيمة 34 مليار دولار ثم تم توسعة القائمة لتشمل واردات بقيمة 50 مليار دولار ومؤخرا وصلت إلى 200 مليار دولار مع التهديد بشمول 267 مليار دولار من الصادرات الصينية للولايات المتحدة بالرسوم الجمركية إن لم تتجاوب الصين مع مطالب الإدارة الأمريكية. الحكومة الصينية سارعت للرد على القرارات الأمريكية بتقديم شكوى لمنظمة التجارة العالمية وبفرض رسوم جمركية على ماقيمته 60 مليار دولار من الواردات الأمريكي للصين مع التهديد بالمزيد في المستقبل.الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأمريكي لن تكون في صالح الولايات المتحدة خصوصا انها على أكثر من جبهة وتشمل الصين, كندا, المكسيك والإتحاد الأوروبي وهي تهدد بخروج أزمة ثقة إلى حيز الوجود, أزمة لها علاقة بعدم وفاء الولايات المتحدة بإتفاقياتها وإلتزاماتها تجاه حلفائها وعدم إحترامها للإتفاقيات الدولية كإتفاقية النافتا التي قامت بالتوقيع عليها وحثت دولا أخرى على القيام بذالك. إن الثقة بحكومة الولايات المتحدة على الوفاء بإلتزاماتها السياسية تعني إنتقال تلك الثقة للجانب الإقتصادي خصوصا الدولار الأمريكي وسندات وزارة الخزانة الأمريكية والإستثمارات في السوق الأمريكية. ونتيجة لسلوكيات الرئيس الأمريكي الغير مقبولة, فإن الإتحاد الأوروبي ودولار أخرى كالصين وروسيا قد بدات في البحث عن بدائل لإستخدام الدولار الأمريكي في المبادلات التجارية خصوصا الإتحاد الأوروبي الذي يعتزم شراء وارداته من الطاقة بإستخدان اليورو كبديل عن الدولار مما قد يعني بداية النهاية للدولار الأمريكي ولعالمنا كما نعرفه الأن.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment