هناك مفاهيم مثل العولمة وإتفاقيات التجارة الحرة كالجات والنافتا وغيرها قد طغت على أحاديث المجالس والنقاشات في الفترة الأخيرة حيث تنوعت الأراء وتعددت مابين مؤيد ومعارض. الأحاديث لم تقتصر على الأشخاص العاديين بل كبار الكتاب والصحفيين وليست محصورة ببقعة جغرافية معينة. يتم إستغلال الجهل المتفشي والأمية التعليمية والثقافية المنتشرة في بلدان كثيرة لتسويق المفهوم البراق لفكرة العولمة ومصطلحات مرتبطة بها كالرأسمالية وإتفاقيات التجارة الحرة.
لست أظن أن هناك شخصان سوف يتفقان على تعريف مفهوم العولمة ولكن برأي الشخصي فإن التعريف الأنسب لمفهوم كلمة العولمة هي أنها حركة عالمية إقتصادية, ثقافية وسياسية تقوم على مبدأ إلغاء كافة أنواع الحواجز الجمركية والحمائية على المستوى الدولي وتحويل العالم إلى قرية صغيرة.
التقدم المذهل في تكنولوجيا الإتصالات والمواصلات كان السبب الرئيسي في تقديم مصطلح العولمة للعالم وجعله أوسع إنتشارا ولكنه سوف يكون السبب الرئيسي أيضا في تأكل تلك المنظومة بالتدريج وإنهيارها وصولا إلى مرحلة الفوضى.
ولكن السؤال هو هل يعيش العالم بداية تلك المرحلة؟
الإجابة هي نعم والسبب بسيط جدا وهو أن التطبيق الإنتقائي لمفاهيم تمثل جذور الفكرة الأساسية وهي العولمة قد أدى إلى خلق فجوة إقتصادية على وجه الخصوص تزداد مع مرور الوقت. المفاهيم التي تمثل جذور فكرة العولمة هي بإختصار الرأسمالية, التجارة الحرة وثورة الإتصالات وكما يقول المثل فإن الفقراء عندما لن يجدوا مايأكلوه فسوف يلتهمون الأغنياء. حكومات عديدة حول العالم قامت خصوصا أثناء الأزمة الإقتصادية 2007\2008 بضخ كميات كبيرة من أموال دافعي الضرائب لإنقاذ شركات مالية وبنوك متعثرة وفق مفهوم (أكبر من أن تفشل) كما قامت بنقل ملكية عدد من الأصول المتعثرة لجهات حكومية أهمها البنوك المركزية وبنك الإحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة وتم دفع حوافز مالية بالملايين لمدراء تلك الشركات مكافأة لهم على فشلهم. إن ذالك يعد تأميما حكوميا للملكية ويعد وفق مفاهيم العولمة والتجارة الحرة خرقا يصعب رتقه لتعارضه مع أبسط مفاهيمها القائم على الدور الإشرافي للحكومة على حركة التجارة وتعزيز دور الملكية الخاصة.
لايمكن الحديث عن العولمة أو الرأسمالية بدون ان نذكر أهم الشخصيات التي ساهمت بخروج تلك المصطلحات إلى حيز الوجود وتشكيل الوعي حول تلك المفاهيم. الفيلسوف وعالم الإقتصاد السياسي الإسكتلندي أدم سميث وكتابه ثروة الأمم, الفيلسوف وعالم الإجتماع والإقتصاد الألماني كارل ماركس وكتابه رأس المال والإقتصادي البريطاني الأشهر جون كينز مؤلف كتاب النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود.
لم أكمل بعد قرائة كتاب ثروة الأمم للفيلسوف ومنظر الإقتصادي السياسي, الإسكتلندي أدم سميث حيث يتفق الكثير من الخبراء على كونه المؤسس للإقتصاد الحديث والأب الروحي لمفهوم الرأسمالية والذي إنحرف من الناحية التطبيقية عن الصورة التي وضعها سميث في كتابه. أما بالنسبة لكارل ماركس وجون كينز فقد إنهارت نظريتهم بإنهيار جدار برلين بالنسبة لماركس والفقاعات الإقتصادية التي تسببت بها نظرية الفائدة صفر لمحاربة الكساد الإقتصادي بالنسبة لكينز.
إن نظرية الفائدة صفر التي تبناها جون كينز قد تسببت بحركة رؤوس الأموال من البلدان الصناعية بإتجاه البلدان النامية حيث قامت ومع إنهيار جدار برلين وتبني عدد من الدول خصوصا التي كانت تدور في فلك الشيوعية للرأسمالية والخصخصة بشراء الأصول والشركات ومصادر الموارد الطبيعية. السبب بسيط جدا وهو أن رؤوس الأموال تلك تبحث عن معدل أعلى للربح بسبب إرتفاع الفائدة في البلدان النامية والتي يعد تصنيفها الإئتماني منخفضا.
إتفاقيات التجارة الحرة هي السبب الرئيسي في الفجوة الإقتصادية التي بدأت بالإتساع منذ بداية التسعينيات مع تفكك الإتحاد السوفياتي وإنهيار جدار برلين. الشركات العالمية العملاقة ورؤوس الأموال العابرة للقارات تقوم بشراء المواد الخام من الدول النامية والفقيرة وبأرخص الأسعار عبر شركات إحتكارية ثم تعيد بيعها لتلك الدول على شكل بضائع وبأسعار مرتفعة. شركة الهند الشرقية البريطانية كانت أهم من ساهم في التأسيس لتلك الممارسات وإستخدام القوة العسكرية في حال رفض الدول والأفراد القبول بمنح الإمتيازات لممثليها في المناطق التي تسيطر عليها الشركة بإسم الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس.
الشركات المحلية خصوصا في الدول النامية سوف يكون مفروضٌ عليها المنافسة ولكن على مستوى عالمي وفق إتفاقيات التجارة الحرة وتحرير التجارة التي تلزم الدول الموقعة لها على إزالة الحواجز التجارية والتعرفات الجمركية الحمائية بما يعرضها لمنافية شرسة من شركات عابرة للقارات تمتلك الخبرات التقنية ورأس المال. النتيجة هي تركيز الثروة في يد الأقلية(النخبة), إقفال عدد كبير من الشركات التجارية الصغيرة والمتوسطة أبوابها وزيادة نسبة البطالة وإنخفاض مستوى الدخل وذالك لعجز تلك الشركات عن المنافسة, فحتى لو كان رأس المال موجودا فسوف تنقصها الخبرة والعكس صحيح.
إن الشروط التي تضعها المؤسسات الإقتصادية والمالية الدولية التي أنشئت بموجب إتفاقية بريتون وودز 1944 كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الدول مقابل القروض الممنوحة لها هي كارثة بكل المعايير والمقاييس وتعد شكلا من أشكال العبودية الإقتصادية. وعلى رأس تلك الشروط هو إنضمام تلك الدول لإتفاقيات التجارة الحرة والخصخصة حيث تكون النتيجة تخلي الدولة عن دورها الرئيسي كمسؤولة أمام المواطن عن تقديم الخدمات إلى دور إشرافي. حتى أنه في اغلب الدول التي إبتليت بداء إتفاقيات التجارة الحرة كالجات فإن ذالك الدول الإشرافي يكون مجرد حبر على ورق.
إن إستمرار الأمور في نفس المسار التي هي عليه حاليا خصوصا حركة تحرير التجارة وسيطرة الشركات ورؤوس الأموال العابرة للقارات وتحكمها في حركة التجارة الدولية بل وبالسياسات التي تحكم تلك الحركة التجارية, فإن الإقتصاد العالمي يسير نحو حافة الهاوية بخطى متسارعة. كما أن الحركة الإنسانية تعاني من التفسخ والإنحلال تحت تأثير بريق العولمة المغري للكثيرين مالم يكن هناك تدخل من حركة عالمية تقوم بالتوعية ويكون هدفها الأسمى مصلحة البشرية والإنسانية.
النهاية
No comments:
Post a Comment