هناك ظاهرة بدأت تنتشر في أوروبا والولايات المتحدة بشكل عام خصوصا في الفترة التي تلت أزمة الرهون العقارية سنة 2007\2008 حيث من الممكن ملاحظة إشغال الوظائف من من قبل من هم من المفترض أنهم في سن التقاعد حيث من المتوقع زيادة تلك الفئة بنسبة 85% في الولايات المتحدة خلال الفترة الممتدة بين 2006\2016 وذالك بحسب مكتب إحصاء القوى العاملة الأمريكي. في كندا فإن حكومة رئيس الوزراء الكندي السابق ستيفن هاربر قامت برفع سن التقاعد من 65 سنة إلى 67 سنة.
الدول الأوروبية كانت الأكثر تضررا من موضوع العامل الديمغرافي والذي يكون حاضرا وبقوة خصوصا خلال الأزمات الإقتصادية حيث من الشائع خصوصا في الوسائل الإعلامية إلقاء اللوم على العمالة الأجنبية. في السابق وفي عهود الرخاء الإقتصادي فإن الدول الأوروبية كانت دوما ترحب بالعمالة المهاجرة خصوصا العمالة الغير ماهرة في مجالات كالبناء والخدمات ولكن الوضع تغير في الفترة الأخيرة خصوصا مع موجات اللاجئين التي تعد بمئات الألوف وإزدياد نسبة البطالة ومشكلة الديون السيادية الأوروبية. نائبة في البرلمان الأوروبي سألت في أحد الجلسات المنعقدة عن مقدرة الدول الأوروبية التي تعاني من أزمة كساد إقتصادي ونسب بطالة تعد مرتفعة على توفير فرص عمل لذالك العدد من اللاجئين حيث من المتوقع أن تستقبل ألمانيا مليون لاجئ. الكثير من الدول الأوروبية بدأت في إعادة النظر في إتفاقيات الحدود المفتوحة مثل الشنغن والإتفاقيات المنظمة لإنتقال الأشخاص بين الدول الأوروبية وتحصين حدودها ببناء جدران شائكة وتحصينات لوقف تدفق اللاجئين ووقف الهجرة الغير شرعية.
لا أحد في دوائر صنع القرار الأوروبي والنخب السياسية الأوروبية وحتى المواطن الأوروبي الذي لايتعاطى السياسة عادة يستطيع أن ينفي القلق الذي يعتريهم بسبب المشكلة الديمغرافية لسببين رئيسيين. السبب الأول له علاقة بتاريخ أوروبا وظهور الحركات الفاشية والنازية والتي إرتبطت بتدني الوضع الإقتصادي وزيادة نسبة البطالة. السبب الثاني هو أن موجات اللجوء والهجرة الأخيرة تتشكل في أغلبها من المسلمين اليافعين. هناك من يخشى من ظهور الفاشية الإسلامية بسبب لجوء مئات الألاف من المسلمين إلى دول أوروبا وإنتشار البطالة في صفوفهم وفشلهم في الإندماج مع المجتمعات الغربية مقابل ظهور الفاشية الغربية في أوساط الشباب الأوروبي الذي يعاني من البطالة والوضع الإقتصادي المتدهور. إن ذالك القلق لا يأتي من فراغ فهناك تصاعد في شعبية الأحزاب اليمينية في عدد من البلدان منها الدانيمرك حيث فازت حكومة لها أجندات معادية للهجرة واللاجئين وبدأت في التضييق عليهم بإصدار القوانين منها مصادرة ممتلكات اللاجئين الشخصية عند عبورهم الحدود لمساعدة الحكومة في نفقات اللاجئين.
لمحاولة إمتصاص الأزمة الإقتصادية والتخفيض من نسب البطالة فقد قامت الحكومة الألمانية على سبيل المثال بإخراج برنامج (Kurzarbeit) لمشاركة الوظائف إلى حيز الوجود حيث بلغت ميزانيته سنة 2011 تقريبا 5 مليارات يورو ويتم إستخدامه خلال الأزمات الإقتصادية لإبقاء مستوى البطالة منخفضا ومساعدة الشركات على الحفاظ على عمالتها الماهرة والمدربة خلال فترات الكساد الإقتصادي. إن برنامج (Kurzarbeit) من المفترض أن يكون مؤقتا ولكنه بسبب الركود الإقتصادي فقد تحول إلى سمة دائمة من سمات الإقتصاد الألماني كما أن هناك عدد من البلدان تقوم بتطبيق نسخة ممثالة(Income Supplementation) وإن إختلفت التسميات أو بعض التفاصيل الثانوية.
هناك نقطة مهمة متعلقة بإنخفاض أو أرتفاع أسعار النفط وهي تهم الأسواق المحلية ومتعلقة مباشرة بها وهي هجرة فرصة العمل لأسواق خارجية أخرى أكثر جذبا بسبب عدة عوامل إقتصادية منها عمالة رخيصة وماهرة.
إن تلك النقطة تحديدا والمتعلقة بالعمالة الرخيصة تعد نقطة جذب لمئات الشركات التي قررت نقل أعمالها للصين والهند وبلدان أسيوية أخرى خصوصا في الفترة التي سبقت الأزمة الإقتصادية ٢٠٠٧ - ٢٠٠٨ والتي بدأت بإنهيار سوق الرهون العقارية في الولايات المتحدة.
بالطبع نستطيع تطبيق نفس مبدأ الكمية صفر (Sum Zero) ولكن بنظرة واقعية فإن دخول الصين والهند إلى عالم الصناعة والخدمات قد حمى العالم من إرتفاع مستوى التضخم وأبقاه في حدوده المعقولة. إذا تجولت في أحد فروع أسواق وول مارت (Wal-Mart) في أي دولة في العالم فإنك سوف تتسائل إن كان وول مارت شركة مقرها الصين حيث أن أغلب البضائع تجد عليها عبارة صنع في الصين. وإذا إتصلت بقسم خدمة العملاء في مايكروسوفت أو أي شركة أخرى أو حتى البنك الذي تتعامل معه فسوف يجيبك شخص بالإنجليزية ولكن بلكنة أسيوية من الهند أو حتى من الفلبين.
ولكن هل يمكن الحفاظ على تلك المعادلة في ظل إرتفاع أسعار النفط وتخطيها حاجز ١٠٠ دولار للبرميل؟
إن الحاصل مؤخرا أنه ونتيجة لإرتفاع أسعار النفط فإن الأسواق المحلية تشهد عودة تلك الوظائف التي هاجرت للخارج بحثا عن عمالة رخيصة ومدربة. إن هجرة فرص العمل في ظل ٢٠ دولارا كسعر لبرميل النفط من الممكن أن يجعل نحقيق أرباح أمرا ممكنا ولكن في ظل إرتفاع سعر النفط وتخطيه حاجز ١٠٠ دولار فإن تكلفة أسعار نقل المواد الخام والإنتاج كفيلة بتقليص تلك الأرباح بل وتحويلها إلى خسائر.
هناك أيضا ترسانة قوانين في أمريكا وكندا وبلدان أوروبية أخرى مصصمة لجذب رؤوس الأموال المهاجرة وذالك بفرض ضرائب على أرباح الشركات حتى لو كانت تقوم بتصنيع منتجاتها أو تقديم خدماتها خارج أراضي البلد الأم.
إن عودة رؤوس الأموال المهاجرة إلى وطنها الأم هو أحد إيجابيات إرتفاع أسعار النفط وهناك إيجابية أخرى متعلقة بإرتفاع كلفة التنقل حتى داخل البلد نفسها مما سوف يؤدي إلى توزيع عادل للمشاريع والمصانع وعدم تركيزها في منطقة واحدة أو مدينة معينة كما في فورت ماكماري (Mcmurray) التي تقع في مقاطعة ألبرتا الكندية حيث أدى الفورة النفطية إلى تضخم غير مسبوق في أسعار العقارات وإيجارات المنازل والذي أدى بدوره إلى إبتلاع نسبة كبيرة من المداخيل الشهرية.
تأثير إرتفاع أسعار النفط لا يتوقف على رؤوس الأموال المهاجرة أو كلفة إيجارات المنازل أو أسعار بيعها أو شرائها بل يمتد ليشمل نواحي أخرى قد لا تخطر على بال من ينظرون للموضوع نظرة تقليدية.
إن إرتفاع أسعار النفط قد يؤثر على الوظائف المحلية بسبب الحاجة إلى تقليل النفقات لمواجهة إرتفاع أسعار الفاتورة النفطية وقد يكون التأثير المتوقع على ثلاثة محاور هي تقليص الإمتيازات والرواتب والحوافز الشهرية مع الإستغناء عن أقل عدد ممكن أو تقليص فرص العمل المتوفرة بشكل حاد مما يؤدي إلى إرتفاع مستوى البطالة أو اللجوء للشركات الخاصة. النقابات العمالية في الغرب تقاوم أي تقليص لفرص العمل أو الإمتيازات وتتسلح بترسانة قانونية تجعل فرض أي حل بدون موافقة النقابات أمرا صعبا حيث أنه ومع تزايد نزعة النقابات العمالية للتمسك بموقفها تجد الحكومات أنفسها مضطرة إلى اللجوء إلى الشركات الخاصة وإحالة مهام تقديم الخدمات إليها مما يؤدي إلى تقليص الأجور والإمتيازات بشكل حاد ولكن مع الإبقاء على أكبر عدد ممكن من فرص العمل. ولنأخذ مثالا مدينة تورنتو الواقعة في مقاطعة أونتاريو الكندية حيث وجد محافظ المدينة الجديد نفسه أمام مشكلة بعد الإنتخابات البلدية متعلقة بعقود عمال النظافة حيث كان هناك جدل إنتخابي بخصوص الإبقاء على عقود تمنحهم إجازة مرضية مدفوعة تبلغ ١٨ يوما سنويا أم تقليص تلك المدة أو حتى إلغائها أو قد يكون الحل الإستغناء عن الخدمة من أساسها وهو حل مستحيل وغير منطقي. مدينة تورنتو كانت تواجه أزمة ميزانية وأن يكون هناك بند في عقود عمال النظافة أن من حقهم قضاء ١٨ يوما مدفوعا في منازلهم بدون أي حاجة حقيقية هو رفاهية لا تستطيع ميزانية المدينة تحملها. محافظ المدينة الجديد قادم من الضواحي حيث خدمة جمع القمامة تم منح مهمة القيام بها لشركات خاصة منذ وقت طويل وهو يسعي لتطبيق ذالك داخل المدينة نفسها. النقابات التي تمثل العمال سوف تقاوم توجهات المحافظ الجديد ولكن في تلك الحالة فإن العمال سوف يواجهون خيارات صعبة تتخلص بالقبول بعقود عمل جديدة وواقعية تراعي الميزانية المحدودة أو خسارة أعمالهم لصالح شركات خاصة توظف عمالا لا يتم الدفع لهم لكي يلتزموا منازلهم ١٨ يوما في السنة بسبب أعذار مرضية وهمية.
إن دخول القطاع الخاص على خط الأزمة لن يكون محدودا بشركات جمع القمامة بل سوف يشمل الجامعات وتجديد رخص قيادة المركبات وحتى الجسور المتهالكة والطرق التي يتم تعهد تجديدها أو بناء المزيد منها من قبل الشركات الخاصة مقابل منحها إمتيازات تشغيلها مقابل رسوم لفترة زمنية قد تصل لخمسة وعشرين عاما تزيد أو تنقص بحسب بنود العقد. جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعد أغنى جامعة في العالم أعلنت عن هبات وتبرعات قد بلغت أكثر من ٣٢ مليار دولار أمريكي. وبالنسبة لقطاع الإسكان فإنه من المتوقع أن يمتد التأثير أكثر من أسعار المنازل ليشمل أحجامها حيث سوق تقل نسبة المنازل ذات المساحة الضخمة والتي تستهلك كمية أكبر من الطاقة لصالح منازل ذات أحجام إقتصادية ومعقولة.
هناك نظرية إقتصادية تنسب لأحد الإقتصاديين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر ثورستين قيبلين (Thorstein Veblen) وتدعى الإستهلاك الظاهري أو التظاهري (Conspicuous consumption). ملخص تلك النظرية هي أن ذالك النوع من الإنفاق مدفوع برغبة الأشخاص إلى إبراز الوضع الإجتماعي بدلا من شراء مايحتاجون إليه فعليا وإن كان ذالك بالمجمل قد لا يؤدي إلى زيادة الرضا عن لاذات ولا إلى زيادة سعادة الشخص. نظرية الإستهلاك الظاهري أو التظاهري مدعومة بإحصائيات تذكر أنه في الولايات المتحدة ورغم تضاعف الدخل الشخصي للفرد الواحد إلى أكثر من مرتين منذ الحرب العالمية الثانية فإن المواطنين هناك أقل سعادة بمقدار ١٩ مرة عن مواطني دولة مثل الدانيمرك والتي لا تقارن من ناحية الدخل والثروات الطبيعية والشخصية بالولايات المتحدة.
التأثير الذي سوف يحدثه إنخفاض أو إرتفاع أسعار النفط على الإقتصاد سوف يتجاوز المفهوم التقليدي لأسواق العمل والإنسيابية في حركة القوى العاملة حيث أن تعريف السن المناسب لتصنيف شخص ضمن القوى العاملة بين سن 15-65 عاما سوف يتغير خصوصا مع متوسط العمر المتوقع وتحسن أنظمة الرعاية الصحية مما يزيد قابلية الشخص للعمل رغم تقدمه في السن. إن الأزمة التي تعانيها صناديق التقاعد بسبب زيادة أعداد المتقاعدين وإرتفاع نسبة البطالة أدى إلى إعتمادها أكثر وأكثر على الدخل الناتج من إستثماراتها في أسواق المال والأسهم وهي معرضة لهزات إقتصادية حيث تعاني الكثير من صناديق التقاعد من عجز مزمن عن الوفاء بإلتزاماتها مما سوف يجعلها ملزمة بإجراء التعديلات على أنظمة معاشات التقاعد وإمتيازات المتقاعدين حيث سوف تجبر التخفيضات في الإمتيازات التقاعدية بسبب العامل الإقتصادي والمشكلة الديمغرافية المتقاعدين على البحث عن فرصة عمل حتى لو كانت بدوام جزئي مما سوف يزيد الضغط على سوق العمل الذي يعاني من إرتفاع مستوى البطالة وإزدياد نسبة العاطلين عن العمل.
إن كل ماسبق ذكره في هاذا الموضوع قد أدى تكون جيل جديد بفعل تلك الحركات والتيارات الإقتصادية خصوصا إثر إلغاء القرارات التي تمنع تداخل الأعمال بين البنوك التجارية والإستثمارية وتمنع البنوك التجارية من إمتلاك مكاتب مضاربة, جيل من الأبناء يختلف عن والديه, جيل يتخلى عن الرفاهيات لصالح حياة بسيطة وغير معقدة. جيل فقد الثقة برأسمالية منفلتة من عقالها وأصبح ينظر لشخص يلبس بدلة بربطة عنق ويرتدي ساعة رولكس ذهبية ليس على أنه مستثمر ناجح في وول ستريت أو في البورصات والأسهم بل كشخص يتطلع لأقرب فرصة كي يحتال على القانون لجمع ملايين الدولارات وترك أشخاص كثيرين في حالة خسارة وحزن لفقدان إستثماراتهم أو مدخرات تقاعدهم.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment