إن السؤال الذي يحير الجميع ويعد مادة النقاش الرئيسية في أروقة السياسيين ومعاهد الأبحاث هو عن أصل الإرهاب ومنبع التطرف في العالم على وجه العموم والوطن العربي على وجه الخصوص. إن مناقشة تلك المسألة أشبه بمناقشة مسألة علاقة إزدياد نسبة حمل السلاح بين مواطني أوروبا وأمريكا وعلاقة ذالك بإزدياد نسبة الجريمة, هل تزداد نسبة الجريمة بإزدياد نسبة عدد المواطنين الذين يحوزون أسلحة في دولة معينة؟ وبالتالي من الممكن أن نسأل هل لإزدياد نسبة الأمية والجهل علاقة بإزدياد عدد المتورطين بالإرهاب في بلد ما؟
شاهدت أحد الفيديوهات الذي يتحدث عن الولايات المتحدة بنسبة 88.8 قطعة سلاح لكل 100 مواطن حيث تحتل المرتبة الأولى بينما تحتل المرتبة الثانية صربيا 58.2 قطعة سلاح لكل مواطن وسويسرا البلد المسالم والمحايد المرتبة الثالثة بنسبة 54.4 قطعة سلاح لكل مواطن. قد يتفاجأ البعض بأن أكثر من نصف عدد سكان سويسرا يمتلك السلاح وذالك بإفتراض ان تلك الإحصائية تشمل الأسلحة المرخصة(النارية) وأما الأسلحة الغير مرخصة فالقيام بعمل إحصائية عن نسب إمتلاكها تعد مستحيلة.
تمتلك سويسرا نسبة جرائم قتل وسطو مسلح أقل من الولايات المتحدة مقارنة بعدد السكان وتلك معلومة قد لاتكون صحيحة بالمطلق وقد تكون هناك إحصائيات أخرى بنسب مقارنة مختلفة ولكن من الممكن الإعتماد عليها لأنها أفضل ماتوصلت إليه بعد بحثي في الشبكة العنكبوتية.
وكما يقولون مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة فإن أول وأهم خطوة هو الخروج من القوقعة التقليدية في البحث عن أسباب المشكلة وإلقائها على كاهل الخطاب الديني فالمشكلة لها جذور إجتماعية, إقتصادية, سياسية والخطاب الديني هو أحد العوامل ولكنه ليس العامل الرئيسي.
إرتفاع نسبة الأمية في الوطن العربي هي أول الأسباب فالجهل مصطلح مرادف للرجعية الدينية, في أوروبا كانت الكنيسة في العصور الوسطى(المظلمة) تعاقب بالقتل حرقا كل من يمتلك نسخة من الكتاب المقدس من غير رجال الكهنوت والذين يمتلكون أذنا من الكنيسة. إن أحد أولويات ثورة الإصلاح الديني التي قام بها مارتن لوثر وهو قسيس ألماني هي السماح بإقتناء الكتاب المقدس للجميع دون إستثناء.
وقد يختلف الكثيرون في تعريف مصطلح الأمية, برأي هناك إتجاهان رئيسيان شائعان في تعريف مصطلح الأمية. الإتجاه الأول يطلق على الشخص الذي لايعرف القرائة او الكتابة لقب الأمِّي. من يؤيدون ذالك الإتجاه يرون في مجرد معرفة الشخص القرائة والكتابة هو محو لأميته حيث تنتهي تلك المرحلة بالنسبة لهم عند إنتهاء المرحلة الإعدادية أو الثانوية بالنسبة للكثيرين فيتم إعتبار ذالك الشخص متعلما ويتم إلحاقه بمصالح العائلة خصوصا إن كانت تمتلك أعمالا تجارية. الإتجاه الثاني يعتبر أنه من الممكن إطلاق لقب متعلم(غير أمِّي) على كل من يحمل شهادة جامعية أو غيرها من الشهادات التي تمنح بعد إنتهاء مرحلة الدراسة الثانوية. وهناك إتجاه ثالث وهو غير شائع يعتبر أن مجرد إمتلاك القدرة على القرائة والكتابة أو الحصول على شهادة جامعية لايكفي لمحو الأمية ولابد من إمتلاك الوعي في مختلف نواحي الحياة. المؤيدون لذالك الإتجاه يمتلكون مايدعم وجهة نظرهم حيث وقع الكثير من المتعلمين ضحية الأصولية الدينية رغم إمتلاكهم أرفع الشهادات العلمية منهم أطباء ومهندسون والسبب عدم إمتلاكهم للوعي اللازم لمقاومة الدعاية الدينية المضللة.
مقارنة نسبة الغير أميين(القادرين على القرائة والكتابة) بين دول العالم المختلفة تكشف لنا مفارقات مذهلة. دولة محدودة الموارد مثل كوبا تبلغ نسبة القادرين على القرائة والكتابة 99.8% وهي أعلى حتى من دول أوروبية منها أستراليا وسويسرا والنمسا وألمانيا وأمريكا وبريطانيا بنسبة 99%. وفي الدول العربية فحدث ولاحرج عن نسبة الأمية رغم إمتلاك الموارد اللازمة لتطوير عملية التعليم حيث تبلغ نسبة القادرين على القرائة والكتابة في دول مثل مصر 73.9%, الأردن 93.4%, الكويت 94%, البحرين 94.6%, المملكة العربية السعودية 86.6%, الصومال 37.8%, اليمن 63.9%, الجزائر 72.6%. إن العلاقة بين إنتشار الأمية وتغلغل الأصولية الدينية وأفكار التطرف هي علاقة طردية حيث نلاحظ أن أشد الدول تضررا هي العراق والصومال واليمن ومصر والجزائر.
العراق وعلى الرغم من ريادة تجربته في محو الأمية في الفترة التي سبقت سنة 2003 حيث كانت برامج محو الأمية إلزامية, فإن نسبة القادرين على القرائة والكتابة لم تزد عن 78.2% مما يدل على أن المهمة ليست سهلة كما قد يتصور البعض بل وعلى الرغم من إمتلاك القرار والموارد اللازمة لتنفيذه فإن عملية محو الأمية تبقى بالغة الصعوبة.
إن ثاني أسباب إنتشار الإرهاب والأفكار المتطرفة في الوطن العربي هو إزدياد الفجوة الإقتصادية بسبب إتباع السياسات الإقتصادية الليبرالية وتحرير الأسواق ورفع الدعم عن السلع الأساسية. إن إتفاقيات التجارة الحرة والجات وتعميم مفهوم العولمة وتحرير التجارة بين الدول المختلفة هو السبب الرئيسي لتلك الفجوة وإزدياد نسبة الفقراء على حساب الطبقة الوسطى والتي تعد السد المنيع لمواجهة الرجعية الدينية والأصولية المتطرفة والتي تحاول أن تستهدف بشكل أساسي الفئات الأكثر فقرا والأقل تعليما. إن تحرير قطاع التعليم والتعامل معه كقطاع ربحي ورفع الرسوم المدرسية والجامعية بشكل متزابد خصوصا في الجامعات الحكومية قد أدى إلى توجيه بوصلة التعليم نحو فئات معينة من المجتمع ممن تمتلك المال اللازم لتلقي أرفع مستويات التعليم والتي تعد مؤيدة بشكل رئيسي لأفكار العولمة وتحرير الإقتصاد والتجارة مما أضر بمصالح الغالبية العظمى من المواطنين وإزدياد نسبة الأمية والجهل. في بعض الدول العربية وللأسف يتم رفع الأقساط المدرسية والرسوم الجامعية في الوقت نفسه الذي يتم فيه منح إعفائات ضريبية للشركات والمؤسسات التي تحقق أرباحا خيالية. وفي ذالك المجال من الممكن الإستفادة من تجربة دولة تشيلي التي تمتلك حركة طلابية ناجحة ومتجذرة في المجتمع والتي نجحت بالضغط على الحكومة في سبيل الإتجاه نحو مجانية التعليم الجامعي بحلول نهاية سنة 2016 مقابل فرض ضرائب على الشركات التي تستثمر في تشيلي وخصوصا الشركات الأجنبية.
ثالث تلك الأسباب هو الإصلاح السياسي المزعوم الذي يراوح مكانه في الوطن العربي حيث يتم تسليم المناصب وعضوية الهيئات المنتخبة كالبرلمان لأشخاص كبار في السن بداعي الخبرة ومن يمتلكون المال لخوض المعارك الإنتخابية والتي تكلف أموالا طائلة بسبب العقلية العربية التي تعتمد على توزيع الولائات والأصوات الإنتخابية بناء على قاعدة الحفلات والعزائم والمهرجانات الإنتخابية وليس الكفائة والقدرة على الإنجاز. البرلمانات والهيئات التمثيلية في الوطن العربي تحولت إلى مايشبه المتاحف بسبب أعمار أعضائها وعدم فاعليتهم وطغيان العنصر الذكوري. في الكثير من البلدان تعتبر عضوية البرلمان بطالة مقنعة ووجاهة وإمتيازات وحصانة برلمانية بدون أي نية حقيقية لخدمة المواطنين حيث تعد مشاهدتهم من قبل ناخبيهم حدثا نادرا قد لايتكرر إلا بحلول موعد الإنتخابات القادمة.
في النمسا سنة 2013 تم تعيين أصغر وزير خارجية في العالم بعمر 27 سنة وهو سيباستيان كورتس حيث تدرج في عدد من المناصب الحكومية وعضوية البرلمان عن حزب الشعب النمساوي حتى وصل لمنصب وزير الخارجية والهجرة.
إن وصول الشباب لمناصب قيادية ومؤثرة ليس حكرا على النمسا حيث أن هناك في بريطانيا وإسكتلندا أصغر نائبة منذ 350 عاما تدعى (Mhairi Black) وهي نائبة عن الحزب الوطني الإسكتلندي وتبلغ من العمر 20 عاما وماتزال طالبة جامعية. النائبة (Mhairi Black) فازت في مقعدها على نائب عمالي (Douglas Alexander) بقي محتفظا بمقعده منذ سنة 1997 عن دائرة (Paisley and Renfrewshire South) والتي تعد معقلا تقليديا لحزب العمال وكان يشغل منصب سكرتير الشؤون الخارجية في الحكومة البريطانية ومجموعة مناصب وزارية أخرى منذ سنة 2007.
إن تلك مجرد أمثلة على عملية الإصلاح السياسي والتنمية السياسية الحقيقية في بعض الدول الأوروبية وهي ليست بجديدة على تلك الدول ولكنها تتطور على مراحل زمنية قد تطول أو تقصر حيث كان أصغر سياسي يتولى منصبا في بريطانيا منذ 350 سنة هو (Christopher Monck, 2nd Duke of Albemarle) المولود سنة 1653 ولى منصبه سنة 1667 أي بعمر 14 عاما حيث تم إنتخابه لمجلس النواب في سن 13 عاما ثم تم تصعيده لعضوه في مجلس اللوردات بسن 14 عاما إثر وفاة والده.
إن تفشي الجهل وإنعدام الوعي يضاف إليه الفقر وإرتفاع نسبة البطالة وعدم القدرة بسبب كل ذالك على الزواج وتكوين أسرة يولد الغضب والذي بدوره يولد الحقد والرغبة بالإنتقام عند الشباب العربي ويدفع الكثيرين للإنضمام إلى الجماعات التي تمثل الرجعية والأصولية الدينية التي تغسل عقولهم بالحديث عن الجنة وقصورها وعشرات الحوريات ومئات الوصيفات حيث يحلم المقهورون بأيام كلها جنس وخمر ولبن وعسل مما يدفع الكثيرين للقيام بعمليات إنتحارية كطريق سريع للوصول لتلك الغاية.
أوروبا إحتاجت إلى 350 سنة وأكثر للتخلص من كل العصبيات القبلية والعشائرية والدينية التي كانت السبب في إغراق القارة الأوروبية بحروب ضحاياها عشرات الملايين من الأبرياء وعلى الرغم من مرور أكثر من 1300 سنة على خلافات مازلنا نعيش أثارها حتى عصرنا الحالي, أي أكثر من ثلاثة أضعاف 350 سنة التي إستغرقتها أوروبا لتجاوز خلافاتها.
الرجعية والأصولية الدينية لا تتحمل كل المسؤولية عن إنتشار التطرف بل هي العامل النهائي الذي يقطف بفضله الأصوليون ثمار كل ماسبق ذكره بعد مرور عشرات السنين من تغلغل الجهل والفقر والتهميش في جذور الحياة الثقافية والإجتماعية والسياسية في الوطن العربي.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment