لم تكن العولمة هي النزعة السياسية الطبيعية الوحيدة التي برزت في القرن العشرين بل كان هناك نزعات أخرى مثل رأسمالية الدولة والتي تعتبر إسما يستخدم للكناية عن نوع أخر من أنواع النزعات التجارية والتي كانت سائدة خلال القرن السابع عشر إلى التاسع عشر. تلك النزعة كانت تسمى الإقطاعية أو نظام اللوردات وخصوصا في إنجلترا حيث كان الملك الإنجليزي يمنح أحد الأشخاص لقبا وأراضي واسعة لإستثمارها مقابل ضرائب سنوية وإرسال عدد معين من رجاله ليخدموا في جيش الملك خلال الغزو والحروب. الإقطاعية(النزعة التجارية) هي نظام متعارض مع النظام الرأسمالي القائم على المنافسة الحرة وعدم تقييد حركة رأس المال وعدم تدخل الدولة في القطاعات التجارية والخدمية إلا في الحد الأدنى.
النظام الإقطاعي قائم على مجموعة مبادئ بسيطة منها أن مصدر الثروة هو شيئ ملموس كالأرض والمواد الأولية والذهب. زيادة الثروة في بلد معين يؤدي إلى تناقصها في بلد أخر وهو مايعرف بمبدأ (المحصلة صفر). التجارة الخارجية وفق ذالك المبدأ تقوم على حماية التجارة الداخلية وفرض تعريفات حماية على البضائع المستوردة. التبادل التجاري يتم حصريا بين أطراف ترتبط بعلاقات سياسية ودية. تقديم الدعم المالي للصناعات المحلية وإستبعاد الأجنبية هي ممارسات تعد مقبولة في ذالك النظام. إن نجاح تلك النزعة التجارية كان يقاس بكمية الذهب المكتسبة من ممارسة التجارة.
وصلت ممارسة النزعات التجارية إلى ذروتها في القرن السادس عشر سنة 1600 حيث تأسست شركة الهند الشرقية الإنجليزية وشركة الهند الشرقية الهولندية سنة 1602. وعلى الرغم من أن تلك الشركات تعمل على أنها شركات خاصة إلا أنه تم منحهم إحتكارات واسعة لإنشاء قوات خاصة بهم, التفاوض على المعاهدات, سك النقود, إنشاء المستعمرات والتصرف بالنيابة عن الحكومات في أسيا وأفريقيا وأمريكا. كأنت تلك الشركات أشبه ببنك الإحتياطي الفيدرالي في وقتنا الحالي والذي يعتبر شركة خاصة ولكنه عمليا ذراع للحكومة الأمريكية في المسائل الإقتصادية.
لم تبدأ تلك الظاهرة بالإنتشار على شكل واسع حتى القرن الثامن عشر والثورة الصناعية وطباعة كتاب ثروة الأمم لمؤلفة أدم سميث. كما أنه من الملاحظ أنها إنتشرت في البلدان التي يقوم نظام حكمها على المبادئ المعارضة للديمقراطية كالفاشية والنازية والشيوعية.
في عصرنا الحالي هناك شركات تبدو أنها خاصة ولكنها في الواقع تتلقى دعما غير محدودا من قبل الحكومة وتتمكن بفضل ذالك من المنافسة على شراء الموارد الطبيعية وشركات منافسة أخرى بالإضافة إلى الإستثمار في الألات والمعدات من دون حساب عوامل الخسارة على المدى القصير. كما أنها تكسب حصة في الأسواق بالبيع دون سعر التكلفة وليس عليها القلق من مشكلة في توفر رأس المال في حالة الأزمات الإقتصادية. لعل أشهر تلك الشركات هي شركة الصناعات الكيميائية الألمانية أي جي في عهد النازية والتي كانت إمبراطورية إقتصادية بكل ماتحمله الكلمة من معنى لم يقتصر عملها على تصنيع المواد الكيميائية ولها مكاتب في عدد كبير من البلدان. الشركة الصينية للصناعات البترولية والكيميائية هي مثال أخر على شركات خاصة في الظاهر ولكنها في الباطن تعمل بالنيابة عن الحكومة وتتلقى دعمها الكامل وشركة الغاز الروسية غازبورن.
الولايات المتحدة تعتبر ذالك نوعا من المنافسة غير العادلة وأنه يتعارض مع مبادى الرأسمالية وقيم الأسواق الحرة ولكنها في الوقت نفسه قامت بإنقاذ مؤسسات مالية خاصة من الإنهيار خلال أزمة 2007-2008 مثل جولدمان ساشا, سيتي بنك وجينرال إليكتريك.
لم يعد خوض المعارك الإقتصادية أمرا محليا كما كان في السابق أثناء فترة العصور الوسطى كما أن التداخل بين الإقتصاد والسياسة وصل لدرجة يستحيل معها الفصل بينهما. الدولار الأمريكي هو العملة الإحتياطية العالمية حتى وقتنا الحالي على الأقل ولذالك فهو أحد المحاور الرئيسية للحروب الإقتصادية والتي تتداخل فيها السياسة والإقتصاد فيما يعرف بإسم الجيوبوليتكس. بل يكاد يكون الدولار الأمريكي هو محورها الرئيسي. محور أخر من محاور الحرب الإقتصادية هو حرب مصادر طبيعية. وإذا رغبت أن أكون أكثر تحديدا فهي حروب متعلقة بثلاثة عناصر هي المياه والنفط والغاز.
عانت الصين خلال تاريخها الممتد لألاف السنين فترات من الإضطرابات وعدم الإستقرار حتى بعد توحيد الصين وبناء سور الصين العظيم في عهد أسرة تشين حيث بنيت أغلب أجزائه في تلك الفترة. ولعل أشهر تلك الإضطرابات في عصرنا الحالي هي سنة 1989 في ميدان تايمين في العاصمة الصينية بكين. القيادة الصينية تعمل على تجنب حصول إضطرابات مماثلة وتتفهم العوامل الدافعة لذالك فالصين بلد متعدد العرقيات والإثنيات وخصوصا أقلية مسلمة ولكنها تشكل أغلبية في إقليم (شينجيانغ) حيث يشاع على نطاق واسع أن مسؤولين أمريكيين توعدوا الحكومة الصينية بتصدير ثورة إسلامية إليها عبر تلك المقاطعة حيث الأغلبية المسلمة وذالك بسبب الإختلاف حول مجموعة من المواقف السياسية حول سوريا والعلاقة مع روسيا وخلافات حول مسائل إقتصادية. الإضطرابات الإجتماعية الداخلية تعد مقلقة للقيادة السياسية في الصين أكثر من تهديدات عسكرية محتملة من قبل الجيش الأمريكي في النزاع حول تايوان والنزاع مع اليابان حول الجزر في بحر الصين الشرقي. تضخم أسعار المواد الغذائية وإرتفاع نسبة البطالة هي أكثر العوامل التي تقلق المسؤولين الصينيين. كما هناك عامل أخر يلعب دورا حاسما وهو سياسة الطفل الواحد والتي إتبعتها الصين في سبيل الحد من الإنفجار السكاني. فقد أدى تفضيل الأسر الصينية للذكور على الإناث لإعتبارات متعلقة بإستمرارية الأسرة إلى وجود زيادة هائلة في أعداد الذكور علىى الإناث وتلك مشكلة ليس من السهل حلها.
الحروب الإقتصادية تعد أمرا مقلقا في الصين وجيش الشعب الصيني ليس مؤسسة نشاطها محصور بالأمور العسكرية بل هي مهتمة بدراسة كل المخاطر المحتملة التي تهدد إستقرار الصين منها المخاطر المتعلقة بالإقتصاد. الصين تتمتع بفوائض تجارية إيجابية خصوصا مع الولايات المتحدة حيث تقوم بتصريف تلك الفوائض عبر شراء سندات وزارة الخزانة الأمريكية وسندات أخرى باليورو وعملات مختلفة حيث هناك دور متوقع للصين في الحزمة الإقتصادية التي من المتوقع تقديمها لليونان لمنع نظامها المالي والمصرفي من الإنهيار وخروجها من الإتحاد الأوروبي.
هناك سندات خزينة بعملات مختلفة بقيمة 3 تريليون أكثر من نصفها بالدولار الأمريكي صادرة من وزارة الخزانة الأمريكية. ولكن هناك من يسأل عن سبب شراء الصين لكل تلك الكمية من السندات؟ وهل هو أمر عشوائي؟
الصينيون يدعمون كل خطوة يقومون بها خصوصا في المجال الإقتصادي بتقارير معاهد أبحاث وخبراء إقتصاديين وأمنيين يقدمون تقاريرهم لحكومتهم عن كل التغيرات السياسية والإقتصادية في العالم مهما كانت ضئيلة. تصريف نسبة كبيرة من الفوائض التجارية خارج الصين والتحكم الصارم بسعر صرف اليوان مقابل الدولار وغيره من العملات هي سياسات تم تصميمها لمنع التضخم داخل الصين والإبقاء على سعر تصريف منخفض لليوان للحفاظ على جاذبية مرتفعة للصادرات الصينية. الإقتصاد الصيني ليس بكفائة نظيره الأمريكي في إمتصاص الفوائض التجارية والسوق الصينية الداخلية لا تتمتع بديناميكية نظيرتها الأمريكية حيث سوف يؤدي تسرب فوائض تجارية ضخمة للأسواق الداخلية بدون أن تكون مستعدة لها إلى موجة تضخم قد تتحول إلى تضخم مفرط.
إن سندات وزارة الخزينة الأمريكية هي الصلة الرئيسية بين الصين والإقتصاد العالمي حيث ينظر إليها في وول ستريت كأفضل زبون في العالم. فعندما تحتاج الصين لبيع أو شراء السندات التي تمتلكها, تقوم بذالك عبر شبكة من المتعاملين الأوليين وهي تفضل ذالك لأن الصلة بين هؤلاء المتعاملين وبنك الإحتياطي الفيدرالي تعطيهم أسبقية على غيرهم في معرفة أحوال الأسواق الإقتصادية. المكالمة بين المسؤولين في بنك الشعب الصيني وصناديق الإستثمار السيادية تذهب بواسطة خطوط مباشرة إلى حلبات التداول في بنوك رئيسية مثل جولدمان ساشاس(Goldman Sachs), جي بي مورجان(J.P.Morgan) ويو بي إس(UBS) حيث يعرف مسؤول المبيعات بوجود نظيره الصيني على خط الهاتف حتى قبل أن يرفع السماعة. ويقوم المسؤولون الصينييون بالإتصال مع أكثر من متعامل وتجعلهم يتنافسون على الصفقات الضخمة وبالتالي تحصل الصين على أفضل الأسعار الممكنة.
إن حجم الأعمال التي تقوم بها الصين في مجال بيع وشراء السندات يبقى صعبا على التقدير حيث لاتصرح السلطات الصينية بها وتبقى لتخمين وتقدير الخبراء الماليين والإقتصاديين العالميين الذي يقدرون ثلاثة تريليونات من السندات أكثر من نصفها بالدولار والباقي بعملا مختلفة لعل أهمها اليورو.
هناك بعض التوقعات بأن تقوم الصين بالرد على سياسة التسهيل الكمي التي تمارسها الولايات المتحدة عن طريق طرح جميع السندات التي تملكها بالدولار الأمريكي للبيع وبأسعار منخفضة مما سوف يؤدي لإنهيار قيمة الدولار في أسواق الصرف الدولية ورفع أسعار الفائدة بطريقة جنونية. لست من المؤيدين لتلك التوقعات فالصين لاتقوم بخطوات من ذالك العيار عشوائية أو في لحظة غضب عابرة لأن ذالك معناه الإنهيار فإنخفاض قيمة الدولار الأمريكي يعني بالمقابل إرتفاع قيمة الين الصيني مقابله في أسواق صرف العملات وهو ما لن يكون المسؤولون الصينييون مسرورين بحصوله. قد تلجأ الصين برأي إلى الإنسحاب بشكل تدريجي وبطيئ من مزادات سندات وزارة الخزينة وتنويع إستثماراتها بأدوات لاتكون مقومة بالدولار الأمريكي وقد يكون اليورو أو الروبل الروسي أحد خياراتها المفضلة. كما أنه من الممكن شراء حصص في شركات التنقيب عن الذهب والشركات الزراعية وشركات التعدين المختلفة والنفط.
هناك أمر أخر من الممكن أن تقوم به الصين ولايضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة حيث هناك خيارات متنوعة لشراء السندات بأجال تبدأ من 30 يوم إلى 30 سنة حيث تقوم بشراء سندات قصيرة الأجل وأقل تعرضا للمخاطرة مقابل كل سند طويل الأجل يحل موعد إستحقاقه وبذالك لاتضطر لتقليص مجموع إستثماراتها ولا القيام بخطوات قد تعتبر عدائية بشكل علني.
في الوقت الحالي يبدو أن شراء الصين للسبائك الذهبية هو الخيار المفضل الذي تفضله الصين على غيره حيث أن تكديس الذهب يعد حماية للعملة الصينية والإستثمارات الصينية من الهبوط في أسعار صرف العملات والأزمات الإقتصادية. بين سنتي 2004-2009 فقد قامت الصين بمضاعفة إحتياطيها من الذهب عبر الشراء بواسطة صناديق الإستثمار السيادية وبشكل غير معلن حيث يتم بعد ذالك نقل تلك السبائك الذهبية إلى حوزة بنك الشعب الصيني. في سنة 2009 تم نقل 500 طن متري من حيازة أحد صناديق الثروة السيادية (Administration Of Foreign Exchange - SAFE) إلى حوزة بنك الشعب الصيني. وفي سنة 2014 إرتفع سعر الذهب وسط توقعات بقيام الصين بشراء كميات كبيرة من السبائك الذهبية.
هناك العديد من الخيارات المتوقعة للإنهيار الإقتصادي القادم وقد يكون أحدها أن روسيا قد تقوم بتقليص أو الإمتناع عن تصدير الغاز والنفط لأوروبا. الصين بدورها سوف ترى أنه من الحكمة تنزيع مجال إستثماراتها بعيدا عن الأوراق النقدية والإتجاه نحو الموارد الطبيعية. وقد تقوم الصين بإتخاذ خطوة الإعلان عن عملة إحتياطي جديدة بضمان الموارد الطبيعية الهائلة التي تمتلكها فتقوم روسيا بعد التنسيق مع الصين بالإعلان أنها لن تقبل الدفع بالدولار لشراء مواردها الطبيعية خصوصا النفط والغاز إلا مقابل سعر صرف مخفض مقارنة بالعملة الجديدة التي اعلنت عنها الصين مما سوف يدعم موقف الصين ويساهم في رفع قيمة عملتها الإحتياطية الجديدة.
قد تكون الخطوات التي يتم إتخاذها من قبل بعض البلدان منفردة أو منسقة كما ذكرت سابقا. وقد تقوم الصين وروسيا بشن حرب إقتصادية على الولايات المتحدة بإستخدام أدوات الدين والعقود الإشتقاقية أو مايعرف بالمشتقات وقد يعلنان وقف التعامل بالدولار. دول أخرى كالهند قامت بإتخاذ خطوات منفردة كشراء كميات من السبائك الذهبية من صندوق النقد الدولي 6.7 مليار دولار. مجموعة دول البريكس قامت بإنشاء بنك تنمية وإستثمار خاص بها وهناك دعوات علنية للتخلي عن الدولار كعملة إحتياطية عالمية حتى من قبل الأمم المتحدة نفسها التي تدعم تلك المطالبات.
الجميع يسعى للقفز من السفينة قبل غرقها فالمسألة هي ليس هل سوف تغرق فتلك مسألة محسومة ولكن السؤال هو عن التوقيت.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment