تم عقد إجتماع سنة 1885 في لندن بين جمال الدين الأفغاني ومسؤولين من وزارة الخارجية البريطانية, مكتب المخابرات البريطانية والغاية منه بحث الإقتراح المثير للجدل الذي تقدم به الأفغاني وهو; هل بريطانيا مهتمة بتحالف بين مصر, إيران, باكستان وأفغانستان ضد روسيا القيصرية, يتبنى الخطاب الإسلامي وتقوده بريطانيا؟ البريطانيون وهم خبراء في إثارة النعرات القومية والطائفية والدينية بين الأقليات المختلفة ودفعهم لقتال بعضهم البعض كانوا مهتمين بتلك النوعية من الإقتراحات, حركة إصلاح وتجديد إسلامية. فرنسا وروسيا القيصرية كانتا مهتمتين أيضا بنفس الفكرة ولكن بريطانيا كان لها الأفضلية كون إمبراطوريتها الواسعة تضم عشرات الملايين من المسلمين.
بين 1870-1890 فقد كانت تحركات الأفغاني تحظى بدعم بريطاني رسمي بل أن سجلات جهاز المخابرات في حكومة الهند-البريطانية تشير إلى أن الأفغاني تلقى عرضا رسميا بالذهاب إلى مصر كعميل للمخابرات البريطانية.
جمال الدين الأفغاني مؤسس مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي يعد الأب الروحي لأسامة إبن لادن حيث أننا لو وضعنا تراتيبية الأسماء بالطريقة التالية لوجدنا مايلي: جمال الدين الأفغاني(1838-1897) تلميذه محمد عبده(1849-1905) تلميذه محمد رشيد رضا(1865-1935) تلميذه حسن البنا(1906-1949).
حسن البنا له عدة تلاميذ منهم سعيد رمضان وهو صهره وكان مشرفا على تنظيم الشؤون الدولية لجماعة الإخوان المسلمين من سويسرا وأبو العلا المودودي الذي أسس أول حزب إسلامي في باكستان(الجماعة الإسلامية). ولعل الكثيرين يجهلون ولكن أحد معتنقي أفكار حسن البنا هو السعودي أسامة إبن لادن.
في الفترة 1875-1925 فقد قامت بريطانيا بتعزيز وتثبيت فكرة ومفهوم اليمين الإسلامي(المتطرف) حيث قام الأفغاني وتحت رعاية بريطانيا وبدعم من المستشرق إدوارد جرينفال براوني(E.G Browne) بإنشاء الكوادر الأساس الفكري لمفهوم مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي. محمد عبده وهو أحد تلاميذ الأفغاني المقربين والذي تكفل من بعده بفكرة الإحياء والتجديد قام بإنشاء الحركة السلفية في مصر وذالك برعاية الحاكم البريطاني لمصر لورد كرومير أو المعروف بإسم إيفيلين بيرينج(Evelyn Baring). وهنا أريد أن أعرج على نقطة مهمة امر عليها سريعا وهي أنه يشاع على نطاق واسع أن محمد عبده تولى مشيخة الأزهر في فترة من الفترات ولكنني بعد التحري وجدت أن ذالك ينافي الواقع وأنه تولى منصب مفتي الديار المصرية بقرار صادر من الخديوي عباس حلمي الثاني سنة 1899 وأنه كان عضوا في لجنة لإصلاح الأزهر مع ملاحظة أنه معين من قبل الحكومة ولا يمكن فصله أو إحلال أحد في مكانه. قرار تعيين محمد عبده مفتيا للديار المصرية بشكل مستقل عن الأزهر كان يحصل لاول مرة في مصر حيث كان العادة على الجمع بين المنصبين حيث أن شيخ الأزهر هو نفسه مفتي الديار المصرية.
الأفغاني وهو حليف مثالي من ناحية إتفاق أهدافه مع أهداف بريطانيا ولكنه غامض وقد حاول عرض خدماته على دول أخرى مثل روسيا وفرنسا ولكن حركته الصوفية والتي تعد نسخة أكثر عصرية من الإسلام المتطرف قد فشلت في النهاية بإجتذاب عدد كبير من الأتباع. تلميذه المقرب محمد عبد عمل بشكل مقرب وحصري مع البريطانيين وقام بإنشاء حجر الزاوية لما أصبح يعرف لاحقا بالإخوان المسلمين وهي الحركة التي هيمنت على اليمين الإسلامي ومازالت.
هناك الكثير من المعلومات المتناقضة بخصوص مكان ميلاد جمال الدين الأفغاني ونشأته. فهناك من يزعم أن مكان ميلاده هو أفغانستان وأنه سني المذهب أو صوفي أو أنه شيعي أو حتى ملحد ومكان ميلاده إيران وأنه مارس الكذب لإخفاء هويته الحقيقية. الأموات لا يتكلمون ومن الصعب في تلك المواقف الحكم على مسألة متعلقة بشخص أثير حوله الكثير من الجدل. كما أن هناك معلومة أخرى مثيرة للجدل حول إنتساب الأفغاني للماسونية ورئاسته لمحفل كوكب الشرق في القاهرة حيث يحاول البعض إستغلال الجدل حول الأصل المذهبي للأفغاني لصالح هاذا الطرف أو ذالك كعادة الموتورين والطائفيين.
مما يعزز الجدل حول شخصية الأفغاني وإنتمائه المذهبي وخطابه هو التناقض في مواقفه حيث كان يعتبر الدين كاداة ويخطاب الفئة المختارة من مريديه وأتباعه بخطاب تطغى عليه النزعة الفلسفية والإلحادية بعكس خطابه الموجه لعموم الجماهير والذي كانت تطغى عليه النزعة المتشددة.
أستاذ مقارنات الأديان الكندي ويلفريد سميث في كتابه الإسلام في التاريخ المعاصر وصف الأفغاني بأنه; مثال للمسلم الملتزم وبأنه سني صوفي سعى للتقارب مع الشيعة.
ويعد الأفغاني بنزعته الأحيائية(الإصلاحية) أول من تكلم عن العلاقة بين الإسلام والغرب بوصفها كحالة من العدائية وهو بذالك يعد المؤسس لمفهوم صراع الحضارات الذي تبناه بعدها بقرن تقريبا برنارد لويس وصاموئيل هينتينجتون.
لم يكن معروفا عن الأفغاني الكثير حتى سنة 1869 وهي التي بدأ فيها إسمه يصبح معروفا للعامة حيث غادر أفغانستان إلى الهند حيث يزعم أنه كان مشتغلا بالسياسة في أفغانستان ولكن كعميل لروسيا القيصرية حسب مزاعم أحد العلماء في تلك الفترة. بدأ الأفغاني سنة 1869 رحلة إستمرت 25 عاما تقريبا بدأها من الهند حيث تم الترحيب به من قبل الحاكم البريطاني للهند وتم ترتيب سفره لمصر عبر قناة السويس على متن سفينة إنجليزية حكومية وتمت معاملته كضيف رسمي. وبعد الإنتهاء من زيارة القاهرة إنتقل إلى تركيا غير أن أفكاره الغير تقليدية والغير مألوفة لم تلقى الترحيب هناك لطرده فرجع للقاهرة حيث حظي برعاية رئيس الوزراء رياض باشا والذي أصدر أمرا بمنحه مرتبا شهريا ومكانا لإقامته في الجامع الأزهر حيث سمح له بإعطاء الدروس والمحاضرات. ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي أشرعة الأفغاني حيث ان تصاعد النزعة القومية في مصر أدى إلى إضعاف نفوذ الأفغاني حتى أنه سنة 1879 تم طرده في مصر وأقام بشكل مؤقت في كل من الهند, لندن, باريس حيث سكنها ثلاثة سنين, روسيا والتي سكن فيها أربعة سنين, ميونخ وإيران.
في إيران إستضاف الشاه الأفغاني ومنحه منصب وزير الحرب ثم رئيس الوزراء ولكن الأفغاني تمرد ضد الشاه وقام بالتحريض ضده وإتخذ أحد المساجد مقرا له وإعتصم فيه حتى تم القبض عليه وترحيله لتركيا. سنة 1896, قام أحد أتباع جمال الدين الأفغاني بإغتيال الشاه منهيا خمسين عاما هي فترة حكمه. الأفغاني نفسه توفي سنة 1897.
كان الأفغاني أثناء إقامته في مصر سنة 1870 يلعب دورا مزدوجا حيث يمثل دور المسلم التقي بينما يتردد على المحافل الماسونية الفرنسية والبريطانية في مصر. في تقرير لمكتب المخابرات البريطانية في مصر أن الأفغاني تم طرده من المحفل الماسوني في القاهرة لأن أظهر ميولا إلحادية مشككا بالخالق الأعظم. المستشرق البريطاني إيلي خضوري ذكر أن الأفغاني كان عضوا في المحفل الإسكتلندي العام والذي كانت لهم معتقدات غامضة تتمحور حول الأهرامات ومهندس الكون الأعظم.
محمد عبده تلميذ الأفغاني كان أثناء تواجده في مصر معارضا للمقاومة المسلحة ضد الإحتلال الإنجليزي وكارها لقادة تلك المقاومة خصوصا قائدها أحمد عرابي الذي كان يحتل منصب ناظر الجهادية(وزير الدفاع) في تلك الفترة.
إن معارضة محمد عبده للقوميين في مصر ولثورة عرابي بقي نموذجا يربط بين حركات اليمين الإسلامي ومخططي الإمبريالية الغربية الإستراتيجيين لفترة طويلة خصوصا معارضة الإخوان المسلمين في مصر لجمال عبد الناصر, معارضة الإخوان المسلمين(حماس) في فلسطين لمنظمة التحرير الفلسطينية ذات التوجه القومي والعديد من الأمثلة الأخرى خصوصا خلال فترة الحرب الباردة وهي صراعات يتم التخطيط لها في مراكز ومعاهد الأبحاث الغربية وتكون حركات اليمين الإسلامي عبارة عن أداة تنفيذية في يد الغرب.
حين تم طرد جمال الدين الأفغاني من مصر فقد تم إتهامه ومحمد عبده بتشكيل تنظيم سري مؤلف من عدد من البلطجية من ذوي الرؤوس الحامية الأعضاء في المحفل الماسوني الذي يرئسه الأفغاني في القاهرة. بعد طرد جمال الدين الأفغاني من مصر إلى باريس حيث لحق به محمد عبده إلى العاصمة الفرنسية بعد فترة منفى قصيرة في قريته في مصر قبل أن يعود إلى العاصمة المصرية بطريقة إحتفالية وبرعاية وحماية الحكومة البريطانية. محمد عبده حل مكان الأفغاني في مصر وبتكليف منه.
في باريس سنة 1884 بدأ الأفغاني وعبده طباعة مجلة العروة الوثقى والتي لم يقدر لها أن تستمر سوى 18 عددا وتوقفت لسبب غامض تماما كمصدر تمويلها الغير معروف حيث يقترح إيليا خضوري أن المجلة كانت تطبع بتمويل سري من الحكومة الفرنسية بعد أن رفضت حكومة الهند البريطانية عرض الأفغاني بأن يعمل كعميل لمصلحتها.
الأكاديمي الأمريكي تشارليز ادامز ذكر في كتابه عن محمد عبده الذي ألفه سنة 1933 أن العروة الوثقى لم تكن إلا غطاء لجمعية سرية تحمل نفس الإسم تم تأسيسها من قبل الأفغاني وتضم مسلمين من الهند ومصر وأفريقيا الشمالية وسوريا وهدفها توحيد المسلمين وإيقاظهم من سباتهم وتنبيههم إلى الأخطار المحدقة بهم. كما أن الأفغاني قام بتأسيس جمعية تهتم بالوحدة الإسلامية في مكة وتأسيس خلافة إسلامية يرئسها خليفة واحد يحكم كافة أقطار العالم الإسلامي. الخطوات التي إتخذها الأفغاني وعبده نظريا تحمل طابعا إسلاميا وعمليا عليها علامات إستفهام منها مصادر تمويل المجلة والجمعية وعضوية الأفغاني في المحافل الماسونية بل ورئاسته لأحدها وعضوية تلميذه ونائبه محمد عبده وكل إنضم إلى تلك المحافل ومصير الخلافة الإسلامية والتي كانت نظريا قائمة ولو أنها تعاني من التفكك. لمصلحة من كان الأفغاني يسعى لإقامة خلافة فوق أنقاض الخلافة العثمانية؟
في الفترة التي تلت توقف العروة الوثقى عن الصدور, سافر الأفغاني ومحمد عبده إلى لندن للتباحث مع الحكومة البريطانية بخصوص ثورة المهدي في السودان وإقتراح الأفغاني بخصوص نوع من الإتحاد الإسلامي أو الوحدة الإسلامية. في العلن ومن أجل تعزيز حركته السرية الداعية لوحدة المسلمين فقد دعم ثورة المهدي كلاميا ولكن أمام البريطانيين كان معارضا لها حيث عبر لهم عن قلقه من ان تمتد ثورة المهدي إلى مصر حيث انها تجتذب البسطاء من المواطنين معرضة المصالح الإنجليزية فيها للخطر. الأفغاني إقترح على بريطانيا مواجهة حركة المهدي الإسلامية بحركة مضادة جوهرها الإسلام وأن مسلما فقط هو من يستطيع مواجهة ذالك المدعي(المهدي) وإعادته إلى حجمه الطبيعي.
الأفغاني اغضبه رفض بريطانيا لعرضه وأما عبده فبقي مخلصا لها وإفترق الأستاذ وتلميذه حيث غادر الأفغاني بريطانيا إلى روسيا بينما تركها عبده إلى تونس ومنها سافر متخفيا إلى عدد من البلدان للإشراف على شؤون الجمعية السرية التي أسسها مع أستاذه الأفغاني في باريس.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
يتبع في الجزء الثاني
No comments:
Post a Comment