بحلول سنة 1880 كانت الفكرة المتمحورة حول العودة إلى أساليب الحياة والتفكير في إدارة المجتمعات التي كانت متبعة أيام العهد النبوي والخلفاء الراشدين مازالت حديثة العهد نوعا ما حيث أن المسلمين ولقرون طويلة لم يتعودوا على سماع مثل تلك الدعوات خصوصا ماكان ينشر في مجلة العروة الوثقى حول إستعادة أراضي الخلافة الإسلامية خصوصا في إسبانيا ووسط اوروبا وبالقوة المسلحة إن لزم الأمر. إن تلك الدعوات شكلت تحديا لبريطانيا وخصوصا موظفي المخابرات البريطانية في المكتب العربي في القاهرة ولورنس الذي نسجت حوله العديد من الأساطير والقصص والحكايات بينما هو لم يكن إلا مجرد عميل مخابراتي بريطاني تم زرعه في المنطقة لضمان توجيه مايسمى الثورة العربية الكبرى بالطريقة التي ترغبها بريطانيا ولا تشكل تهديدا لمصالحها. إن تصاعد تلك النزعات والدعوات جاء في توقيت حرج بالنسبة إلى بريطانيا والتي كانت قد بدأت بالإستماع لنصيحة جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده في مسعاها لهدم الخلافة العثمانية وتمويل الأسرة الشريفية في الحجاز للقيام بما سمي لاحقا الثورة العربية الكبرى.
المستشرق البريطاني إيلي خضوري ذكر أنه بناء على تحليله لمجموعة من رسائل محمد عبده التي تحدث فيها الأبعاد الإجتماعية لإستخدام الدين في تشكيل وتكوين المجتمعات, أنه كأستاذه الأفغاني صوفي النزعة حر التفكير. محمد عبده عاد إلى مصر وبشكل علني وتدرج في عدد من الوظائف الحكومية برعاية اللورد كرومر إيفيلين بيرنج والذي ينتمي إلى أحد أشهر الأسر اللندنية التي عملت في مجال المصارف والبنوك.
كرومر والذي كان الحاكم البريطاني المطلق في مصر حتى سنة 1907 تصادق مع محمد عبده وأصبح محل ثقته والراعي لنشاطاته في مصر حيث ترأس محمد عبده وبدعم من كرومر لجنة لإعادة تنظيم الأزهر وأصبح رئيس تحرير للصحيفة الحكومية الرسمية في مصر وعضوا في المجلس التشريعي الذي كان من إختصاصه إصدار القوانين والتشريعات حيث كان رأي محمد عبده حاسما في إصدار أي قانون والموافقة عليه بإعتباره أبرز عضو في المجلس. كما أنه بعد وفاة جمالالدين الأفغاني بسنتين تقريبا تم تعييم محمد عبده مفتيا لمصر مما خوله سلطات دينية واسعة خصوصا بعد الفصل بين منصب شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية.
وبالرجوع لجمال الدين الأفغاني فإن وثائق المخابرات البريطانية التي تعود لسنة 1888 ذكرت أن الأفغاني بعد إفتراقه عن تلميذه محمد عبده فقد أمضى وقتا في روسيا القيصرية عارضا خدماته على حكومتها في إثارة ثورة في الهند لو رغبت حكومة القيصر بذالك ولكنه فشل في مساعيه وإنتهى به الأمر عائدا إلى لندن.
أحد أهم الأشخاص الذين إتصل بهم الأفغاني في لندن هو مستشرق بريطاني يدعى إدوارد براوني(Edward Browne) كان يعمل كأستاذ جامعي في جامعة كامبريدج ويعد مؤسس مايعرف بالإستشراق في القرن العشرين خصوصا في مجال الدراسات الفارسية والدينية وكان له تأثير على صانعي السياسة البريطانية خصوصا فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. إدوارد براوني كان أستاذا لأحد أهم عميلين لبريطانيا في الشرق الأوسط خلال فترة الحرب العالمية الأولى وهما ثوماس لورانس الملقب بلورنس العربي(Lawrence of Arabia) و هاري فيليبي(Harry St. Johns Philpy).
خلال الفترة الممتدة بين 1880 و 1890 قام إدوارد براوني بالسفر والترحال في الشرق الأوسط, تركيا وإيران وكان متخصصا في الحركات الصوفية والحركات الدينية الغامضة التي بدأت بالترعرع في الشرق الأوسط. أستاذ إدوارد براوني في إيران يدعى ميرزا محمد صادق وهو رجل إيراني رحال تجول في الكثير من بلدان العالم وكان يتكلم بطلاقة ستة لغات وإختبر العديد من المذاهب والديانات منها الشيعية المحمدية, المسيحية, الصوفية, الإلحاد, اليهودية وإنتهى تفكيره إلى تأسيس مذهب خاص به يجمع مابين المسيحية والإسلام.
كما أن براوني قام بما يشبه عمل مندوب الدعاية في أوروبا لما عرف بالمذهب البهائي الذي أسسه حسين علي النوري الذي عرف بلقب بهاء الله ويقع المقر الرئيسي للبهائية في حيفا وله أتباع في العديد من البلدان حول العالم. كان ينظر للبهائية بنظرة شك في العالم العربي خصوصا إرتباطهم مع بريطانيا حيث تم تكريم أحد مؤسسي البهائية عبدالبهاء وترسيمه بلقب فارس من قبل الحكومة البريطانية.
جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده كانوا على إتصال في أكثر من مناسبة ببراوني, ميرزا محمد صادق وحسين علي النوري(بهاء الله) كما أن محمد عبده وميرزا محمد صادق قد تناقشوا في أكثر من مناسبة حول مسائل دينية وقرأنية وذالك أثناء إقامة الأفغاني وعبده في باريس وإصدارهم لصحيفة العروة الوثقى. كما أن جمال الدين الأفغاني قام بإرسال نسخ من صحيفة العروة الوثقى لقادة البهائية في مقرهم الرئيسي في حيفا.
مالكم خان لعب دورا مهما في تعزيز إهتمام الأفغاني بالشؤون الإيرانية فقد كان سفيرا لإيران في بريطانيا وإبن مؤسس الحركة الماسونية في إيران وكان مؤمنا بأن ديانة عالمية إنسانية هي الشرط الأساسي لحل سياسي في منطقة الشرق الأوسط. تحت تأثير من مالكم خان فقد قام الأفغاني بتأسيس الجمعية الماسونية العربية.
وبدعم من مالكم خان فقد أمضى الأفغاني السنين الأخيرة من حياته في إيران كوزير للحرب ورئيس للوزراء ولكن حياته المهنية إنتهت إلى الفشل بعد أن فشل في الترويج لأفكاره خصوصا بين الطبقة المخملية والحاكمة في إيران حيث تم طرده من قبل الشاه بعد أن إتهم بالإتصال برجال الدين الملالي والتحريض على الحكم. بعد طرده من إيران فقد امضى بقية حياته متنقلا بين إيران والتي عاد إليها في مناسبات عديدة, أفغانستان وتركيا مما لفت إنتباه أجهزة مخابرات عديدة في المنطقة إلى أنشطته حتى توفي في تركيا سنة 1897 والتي كان قد عاد إليها بحماية بريطانية بعد طرده على يد السلطان عبد الحميد.
الحاكم العام البريطاني لمصر اللورد كرومير كان له رأي في فشل تجربة الأفغاني وعبده الإحيائية وهي أنهما كانا يواجهان إتهامات بأنهما مبتدعة مما جعل أفكارهما لا تلقى رواجا في الأوساط المحافظة كما أنهما لم يكونا أوربيين بما فيه الكفاية لتبني نمط الحياة الأوروبية. اللورد كرومير قرر أن أفكار الوحدة الإسلامية والإحياء الإسلامي التي حاول الأفغاني وعبده جعلها موضع التنفيذ تحتاج إلى مراجعة وتنقيح.
أفكار الأفغاني وعبده لقيت رواجا لدى الصحفي محمد رشيد رضا الذي قام بنشرها والترويج لها في مجلة المنار وهي البذرة التي تحولت فيما بعد إلى جماعة الإخوان المسلمين التي تفرعت عنها ما أصبح يعرف بالحركة السلفية في مصر.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment