قد يذكر بعضهم إسم دولة الدانيمرك مقرونا بأزمة الرسوم المسيئة, وقد يقوم أخرون بدعوى صاحب تلك الرسوم بحجة معروفة سلفا وهي سماع وجهة نظر الطرف الآخر ولكنني في هاذا الجزء سوف أتناول الدانيمرك من وجهة نظر أخرى وهي متعلقة بالطاقة والنفط.
إن أزمة الرسوم الدانيمركية قد طمست إيجابيات أخرى تتمتع بها تلك الدولة الإسكندنافية حيث أنها وفي العقدين الأخيرين قد خفضت إنبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة ١٣% وهاذا شيئ إيجابي إذا قمنا بمقارنة ذالك بأمريكا الشمالية حيث زادت نسبة إنبعاث الكربون منذ سنة ١٩٩٠بنسبة٣٠%. كما أن القادم بالطائرة إلى الدانيمرك لا يستطيع أن يتجاهل طواحين الهواء الضخمة في منطقة تقع بالقرب من ميناء العاصمة الدانيمركية كوبنهاجن والتي ترتفع مائة متر فوق المياه. الدانيمرك كانت أول دولة تقوم ببناء تلك الطواحين كما أن مبيعات الدانيمرك من تكنولوجيا الطاقة البديلة تعد ١١% من إجمالي الصادرات وتقوم بتوفير ٢٠% من الطاقة المستهلكة داخل الدانيمرك.
ولكن من أين للدانيمرك توليد نسبة ٨٠% من إحتياجاتها للطاقة؟
للإجابة على ذالك السؤال يحتاج شخص للتمتع بقوة ملاحظة والتسائل عن أسباب محاولة الدانيمرك إظهار طواحين الهواء كأنها هي المصدر الوحيد للطاقة الكهربائية أو أها مسؤولة عن توليد نسبة ٨٠% من الطاقة المستهلكة بدلا من٢٠%؟
الفحم هو المصدر الذي يعد مسؤولا عن٨٠% من الطاقة الكهربائية المولدة في الدانيمرك حيث نستطيع أن نفهم الآن الأسباب الدعائية للتسويق والدعاية لصناعة تعد مسؤولة عن١١% من إجمالي صادرات الدانيمرك, ولكن قد يخفى على الكثيرين أن محطات توليد الطاقة الكهربائية التي تستخدم الفحم في الدانيمرك تعد الأكفأ من ناحية تقليل إنبعاث الغازات الضارة وخصوصا ثاني أكسيد الكربون.
وعلى الرغم من ذالك فإن الدانيمرك تعد من الدول التي تتمتع بأقل نسبة إنبعاث كربوني (Carbon Footprint) وذالك بسبب إرتفاع أسعار الكهرباء في الدانيمرك مقارنة بغيرها من الدول. المواطن الدانيمركي يدفع ما معدله ٣٠سينت لكل كيلووات/ساعة وهو مايعد أعلى بمرتين إلى ثلاثة مرات مما يدفعه مواطن يعيش في أمريكا الشمالية مما يعني أن إستهلاك الكهرباء في الدانيمرك ليس برخيص سواء كان مصدره الطاقة المتجددة أو الفحم.
إن الأسعار العالية لإستهلاك الكهرباء في الدانيمرك سببها مايسمى ضريبة الكربون ولكن ذالك ليس السبب الوحيد لإنخفاض الإنبعاث كربوني (Carbon Footprint) بل إنخفاض نسبة السيارات في شوارع الدانيمرك التي تعد من أفضل الدول من ناحية تخصيص مسارب(مسارات) لراكبي الدراجات الهوائية وحتى أن لهم نظام إشارات ضوئية خاص بهم. إن تلك السياسات تؤتي ثمارها حيث أينما تذهب في الدانيمرك تجد أغلبية المواطنين يركبون الدراجات الهوائية.
قد يظن البعض أن إرتفاع أسعار الوقود في الدانيمرك هي السبب في قلة عدد السيارات التي تسير على الطرقات ولكن في الحقيقة فإن أسعار الوقود في الدانيمرك مماثلة لأسعارها في الدول الأوروبية المجاورة, السبب يكمن في إرتفاع أسعار السيارات. إن شراء سيارة في الدانيمرك يعد مكلفا بسبب فرض ضريبة من١٠٠% إلى ١٨٠% على شراء السيارات بحسب سعة المحرك وقد يستطيع مواطن دانيمركي أن يشتري معارض السيارات في بلده بقيمة سيارة واحدة سعة محرك V-8 ثلاثة سيارات من نفس سعة المحرك في أمريكا أو كندا.
ولكن إنهاء حالة غرامية من عشق السيارات إمتدت لأكثر من مائة عام ليس بالعملية السهلة وسوف أعطي مثالا بسيطا لمزيد من التوضيح. في مدينة تورنتو الواقعة ضمن مقاطعة أونتاريو الكندية تم زيادة ضريبة التسجيل السنوية للسيارات ٦٥ دولار كندي مما أوجد إستياء واسعا لدى أهالي المدينة حيث تم إسقاط المجلس البلدي في أول عملية إنتخابات بلدية بعد رفع الضريبة وتم إنتخاب مجلس بلدي جديد أول قرار أصدره كان إلغاء الزيادة الضريبية السابقة.
الإشكال الذي يطرحه البعض هو أن قيادة الدراجة الهوائية في المدن الكبيرة ليس عمليا وأن مدينة بحجم لوس أنجلوس لاتقارن بمدينة بحجم كوبنهاجن ولكن الحاصل في الحقيقة أن الدانيمرك قامت بسن قوانين لترشيد الإستهلاك وليس لجعله صفرا. إن توفر الوقود الرخيص والمركبات رخيصة السعر يجعل الإنتقال للعمل من الضواحي إلى المدن رخيص التكلفة ويجعل المدن تتضخم من ناحية زيادة عدد السكان وكل ذالك سوف يتلاشى بمجرد فرض أسعار عالية من ثلاثة أرقام للوقود.
إن الأسعار المضاعفة للطاقة الكهربائية التي يدفعها المواطن الدانيمركي ليست هي السبب الرئيسي لترشيد إستهلاك الكهرباء بل يلعب إنتشار الوعي وخصوصا البيئي دورا رئيسيا. فالمواطن الدانيمركي يفضل في فصل الشتاء أن يلبس ثيابا شتوية ثقيلة على أن يشعل التدفئة كلما إنخفضت درجة الحرارة كما أنهم في الصيف يقضون أغلب أوقات فراغهم خارج المنزل في الهواء الطلق مقارنة بمدينة مثل هيوستون في ولاية تكساس الأمريكية حيث يخرج المواطن الأمريكي هناك من منزل مكيف لسيارة مكيفة لمكتب عمل مكيف. إن نتيجة الأسعار العالية لإستهلاك الطاقة الكهربائية ممزوجة بإنتشار الوعي وخصوصا البيئي قد أدى إلى أن معدل إستهلاك الأسرة في الدانيمرك للطاقة الكهربائية يقل عن مثيلاتها في أمريكا بمعدل الثلث.
إن كوبنهاجن تعد من أجمل المدن في العالم حيث يتوافد إليها آلاف السياح كل شهر للتمتع بجمال مبانيها التاريخية وشوارعها النظيفة والشعب الدانيمركي يتمتع بواحد من أعلى مستويات المعيشة في العالم ونسبة الهجرة خارج الدانيمرك تعد من أقلها مقارنة بدول أخرى فليس لسياسة الحكومات الدانيمركية المتتابعة بخصوص التسعيرة العالية لإستهلاك الكهرباء أي تأثير على مزاج المواطنين أو طريقة تفكيرهم من ناحية نوعية مستوى المعيشة. إن تكوين تفكير المواطنين في أي بلد بتلك الطريقة ليست عملية سهلة وليست تكتمل في سنة أو سنتين بل هي نتيجة تراكيمة لقرارات وخبرات ومجموعة عوامل مساعدة تكونت بفعل الظروف المحيطة ببلد معين. في حالة بلد كالدانيمرك فإن محدودية مصادر الطاقة وإنتشار الوعي بين المواطني ساهم على فترة ممتدة في وصول الوضع إلى ماهو عليه الآن.
مثال آخر نختم به هو اليابان حيث أجبرتها مجموعة من العوامل على سلوك طريق الدانيمرك بخصوص ترشيد إستهلاك الطاقة الكهربائية منها ندرة الموارد الطبيعية خصوصا النفط والإرتفاع الخيالي في سعره في فترة السبعينيات وكارثة المفاعل فوكوشيما.
إن الموضة الرائجة في اليابان هذه الأيام تتعلق بتوفير الطاقة الكهربائية وكيفية الحد من إستهلاكها فمثلا العاملون في المكاتب لا يقومون بتشغيل المكيفات والعاملون في المصانع يقومون بالتبديل بين ماكينات الإنتاج لضمان أعلى مخرجات للطاقة الكهربائية المستهلكة. في المجمعات التجارية فإن المصاعد تحولت إلى سلالم وسكان المنازل في طول البلاد وعرضها يتم عمل دعاية تلفزيونية لهم بخصوص ترشيد إستهلاك الطاقة الكهربائية بمتوسط نسبة تصل إلى 20% للأسرة الواحدة. حتى رجال الأعمال في اليابان أصبح الكثير منهم يرتدي ملابس عادية قطنية بدلا من البدلات الداكنة التي تمتص الحرارة حتى داخل المكاتب فتزيد التعرق والحاجة لتشغيل التكييف. شركة توشيبا أنتجت تلفزيونات مسطحة ببطارية تشحن تكفي لتشغيل التلفاز لمدة ثلاثة ساعات في حالة إنقطاع التيار الكهربائي وهي مخصصة للبلدان التي تعاني إنقطاعات متكررة في التيار. حتى بورصة طوكيو أصبحت تبدأ عملها في وقت باكر لتوفير الطاقة الكهريائية وتم زيادة سعة بطاريات السيارات الكهربائية.
إن ترشيد إستهلاك الطاقة بالتأكيد هو عامل مساعد من كل النواحي ولكن ماذا عن الإقتصاد؟ ماذا سوف يكون نوع ذالك الإقتصاد الذي من الممكن أن يزدهر في ظل ترشيد لإستهلاك الطاقة سببه أسعار نفط فلكية؟ هل يمكن لإقتصاد أي بلد أن يتمكن من الإستمرار في النمو في ظل تلك الأسعار للنفط ومشتقاته؟
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment