من وجهة نظر الكثير من المؤمنين ومرتادي الكنائس فإنه من الصعب التمييز حين قرائة مقطع من العهد الجديد مصدره أحد الأناجيل, تحديد مصدره بالتحديد من أي الأناجيل الأربعة وخصوصا أن الكثير من الكنائس تقوم بالمراوحة بين الأناجيل المختلفة ومزج النصوص والكلمات بعضها مع بعض. وكما نعلم فإنه هناك في العهد الجديد من الكتاب المقدس أربعة أناجيل هي على الترتيب الإنجيل بحسب القديس متى, الإنجيل بحسب القديس مرقس, الإنجيل بحسب القديس لوقا والإنجيل بحسب القديس يوحنا. الأناجيل الثلاثة الأولى يطلق عليها (الإزائية) منفصلة في البنية وطريقة الصياغة عن الإنجيل حسب القديس يوحنا حيث أن بعض الأراء ترى أن القديس متى إستخدم الإنجيل بحسب القديس مرقس في 90% من إنجيله كما أن القديس لوقا إستخدم نفس الإنجيل - مرقس, بنسبة 50% كما أن كلا من القديس متى والقديس لوقا قام بإضافة مواد من مصدر لايوجد في أيدي الباحثين يعرف بكويلي أو الإنجيل (َQ). وحده الإنجيل بحسب القديس يوحنا يعد منفردا بدون أي دليل على إستعانته بمواد من أي من الأناجيل الإزائية.
سوف نأخذ مثالا بسيطا في قصة ميلاد يسوع المسيح التي يقرأها قساوسة الكنائس خصوصا في المناسبات التي تترافق مع أعياد الميلاد ورأس السنة. القصة سوف تبدأ من الإنجيل بحسب القديس لوقا وتنتهي بقصة المجوس الذين قدموا من المشرق. إن ذالك يعد ترتيبا مريحا لتجنب ذكر عدد من التفاصيل التي وردت في الإنجيل بحسب القديس متى وخصوصا التي تعد دموية مثل قصة ذبح هيروديس لأطفال بيت لحم.
إن ذالك الخلط في التفاصيل يؤدي إلى ضياع بنية القصة حسبما قام بكتابتها القديس متى ويصبح من الصعب تمييزها. فبحسب القديس متى لا يوجد رحلة إلى بيت لحم ليوسف ومريم العذراء ولا منزل الإقامة وغير ذالك من التفاصيل اللازمة لإكمال القصة وبدلا من ذالك يفترض أن يسوع المسيح ولد في بيت لحم في منزل مستقل يمكن تمييزه لدرجة كافية للنجم أن يتوقف عن المسير فوقه ويضيئ ذالك المكان بعلامة مميزة للرحالة المجوس. رواية القديس متى للقصة بتلك الطريقة وخصوصا إدخال قصة مذبحة الأطفال في التفاصيل وضعته في إشكالية لم تواجه القديس لوقا خصوصا أنه يعلم أن يسوع المسيح جليلي وأصله من بلدة الناصرة(Nazarriah). في سبيل إعطاء قصة الميلاد البعد المناسب لجعلها متماسكة فقد قام بإضافة هروب العائلة المقدسة إلى مصر ثم العودة إلى منزل الأسرة في بيت لحم ثم الرحيل إلى الجليل وبالتالي العودة للناصرة.
رواية القديس لوقا تذكر كون يوسف ومريم العذراء من سكان الناصرة ولكن ذالك يضعه في إشكالية كون المسيا المنتظر من نسل داوود ولذالك يقوم لوقا ببناء روايته حول الإحصاء السكاني الذي أمر به القيصر أوغسطس ورحيل يوسف ومريم العذراء إلى بيت لحم مدينة داوود وولادة يسوع المسيح هناك.
إن قصة ميلاد يسوع المسيح بحسب رواية القديس لوقا تدخل فيها الكثير من العناصر الميثولوجية على حساب الحقيقة وذالك لثلاثة أسباب أوضحها كما يلي:
السبب الأول هو أنه بين ديفيد ويوسف 50 جيلا على الأقل ومع الأخذ في الإعتبار أن داوود كانت له العديد من الزوجات والأولاد الذين تناسلوا فإن عددهم بإفتراض بقائهم جميعهم أحياء وهو مالم يحصل سوف يبلغ مئات الملايين. إن ذالك لا ينفي العدد الكبير من المتحدرين من نسل الملك داوود الذين إنحدروا على بيت لحم لتسجيل أسمائهم في الإحصاء السكاني الذي أمر به القيصر الروماني مما يقدمم مبررا أن مريم العذراء لم تجد مكانا في النزل وإضطرت أن تلد يسوع المسيح في حظيرة او في مغارة وهو ما أثبته أحد أباء الكنيسة الأوائل أوريجانوس زاعما أنه نقل ذالك من بعض التقاليد القديمة.
السبب الثاني هو أن القديس لوقا ذكر توقيت الإحصاء في الزمن الذي كان فيه كيرينيوس حاكما على سوريا بينما تثبت الإحصائيات التاريخية أن كيرينيوس لم يصبح حاكما على سوريا حتى 6-7 قبل الميلاد أي عندما كان عمر يسوع المسيح بلغ عشرة أو أحد عشرة سنة.
السبب الثالث هو سفر مريم العذراء وهي حامل في شهرها الأخير كل تلك المسافة التي تبلغ 94 ميلا تقريبا من الناصرية إلى بيت لحم راكبة على حمار. كل تلك التفاصيل لو قمنا بعرضها على باحث متخصص فسوف يكون جوابه بردها وأنها غير صالحة تاريخيا كما ان العديد من تفاصيلها تتعارض مع القصة التي نجدها في الإنجيل بحسب القديس متى.
من الممكن أيضا الإستعانة بمثال أخر يساعد على فهم الكيفيية التي يتم فيها الدمج بين تفاصيل القصة الواحدة من الأناجيل الأربعة وأحد أفضل الأمثلة على ذالك هو الكلمات الأخيرة التي قالها يسوع المسيح على الصليب.
تقوم العديد من الكنائس بإستقبال يوم الجمعة العظيمة بطقوس وصلوات وتأملات مستمدة مما يعرف بالكلمات السبعة الأخيرة وهي من المفترض أنها الكلمات السبع الأخيرة التي تفوه بها يسوع المسيح على الصليب. على أرض الواقع وبالرجوع إلى الأناجيل الأربعة فإنه مايدعى الكلمات السبعة الأخيرة ليست إلا مزيجا مما قاله يسوع المسيح في لحظاته الأخيرة على الصليب من واقع الأناجيل الأربعة.
ولكن هناك إستثناء بسيط في إنجيل القديس مرقس 14:50(فتركوه كلهم وهربوا) وهناك يتسائل الناقدون عمن سجل كلمات يسوع الأخيرة إن كان كل تلاميذه لك يكونوا موجودين بجانبه خلال تلك اللحظات؟ كما أن قصة هروب التلاميذ قد تكون مضافة بأيدي بشرية حسب أراء بعض النقاد وذالك تطبيقا لنبوئة زكريا 13:7(اضْرِبِ الرّاعيَ فَتَتَشَتَّتُ الخِرافُ).
كما أن أول روايات حادثة الصلب والتي جائت في الإنجيل بحسب القديس مرقس(14:17 - 15:49) هو نفسه لم يكن شاهدا عليها إنما محاولة منه لرواية الأحداث المكملة بحسب وجهة نظره للنبوئات التوراتية كما في المزمور 22 وإشعياء 53.
وعندما قام القديس يوحنا بكتابة إنجيله فإنه لم يكن يعتقد بملائمة أي من الروايات لكلمات يسوع المسيح الأخيرة على الصليب والتي وردت في الأناجيل الإزائية الثلاثة لشخصية يسوع المسيح التي رواها في إنجيله فقام بتأليف ثلاثة مقاطع وهي التي وردت في يوحنا 19:27, 19:28 والتي ذكر يوحنا أنها لتتم النبوئات وعلى وجه الخصوص مزمور 69:21 ويوحنا 19:30(قَدْ تَمَّ) أو (تم كل شيء) كما جاء في بعض طبعات الكتاب المقدس خصوصا الترجمة اليسوعية.
وفي الختام سوف أقوم بإيراد بعض النقاط والتي تلخص الأسباب التي جعلت الإنجيل بحس القديس يوحنا متميزا عن باقي الأناجيل الإزائية.
- لايوجد أي ذكر للميلاد المعجزي ليسوع المسيح على الرغم من أن تلك الحادثة من المفترض أن القديس يوحنا قد سمع بها حيث انها متداولة ومكتوبة في فترة لا تقل عن 15 سنة قبل كتابته لإنجيله. تلك ليس الإشكالية الوحيدة بل أن يسوع المسيح يتم ذكر إسمه مرتين مقرونا بكونه إبن يوسف كما في يوحنا 1:45 و يوحنا 2:46.
- في الإنجيل بحسب القديسس يوحنا فإن يوحنا المعمدان لا يقوم بتعميد يسوع المسيح كما في روايات الأناجيل الإزائية.
- في الإنجيل الرابع فإنه لايوجد أي ذكر لإختبار يسوع المسيح في الصحراء ولا عن تحوله حين تكلم مع موسى واليشع.
- في الإنجيل الرابع تطغى الحوارات التي يجريها يسوع المسيح خصوصا مع اليهود على الصيغ التي تم إستخدامها في الأناجيل الإزائية كالأمثال والحكايات الرمزية كما أنه العظة على الجبل غير موجودة في الإنجيل بحسب القديس يوحنا.
- في الإنجيل الرابع فإن تطهير المعبد ليست مقترنة بالأسبوع الأخير من حياة يسوع المسيح بل جاء ذكرها في بداية كرازته في الفصل الثاني.
- مكان الأحداث في الإنجيل الرابع أغلبه في القدس ومحيطها حيث يخرج يسوع للجليل للهروب من إضطهاد السلطات اليهودية له بعكس الأناجيل الإزائية حيث يزور القدس مرة واحدة من أجل أن يأكل عشاء الفصح مع تلاميذه.
- ليس هناك وصف للعشاء الأخير في الإنجيل الرابع بإستثناء طقوس غسيل يسوع المسيح لأقدام التلاميذ وذالك مقارنة بالأناجيل الإزائية التي تحوي وصفا مفصلا للعشاء الأخير وكيفية التحضير له. التفاصيل في الإنجيل الرابع قصيرة ومختصرة.
- في الإنجيل الرابع لايوجد وصف للمعاناة في بستان جُثْسَيمانِي ولا صلاة ليسوع المسيح يسأل فيها أن يتم إنقاذه من مصيره بل يظهر منتقدا للتقاليد البالية متيقنا من مصيره أنه ولد ليصلب كما في يوحنا 12:27.
- الصورة التي يعكسها الإنجيل الرابع للمسيح لم تكن متعلقة بمعاناة يسوع المسيح حين صلبه, المسيح الذي يعاني, بل تعكس مجد يسوع المسيح وتعظيمه على الصليب.
- هناك شخصيات مذكورة في الإنجيل الرابع حصرا كشخصية ناثائيل والتلميذ الذي يحبه يسوع. لايمكن إعطاء تحليل منطقي وواقعي للإنجيل الرابع بدون المرور على تلك الشخصيات ودراستها.
- يتميز الإنجيل الرابع بإعطاء بعد واقعي وعميق لشخصيات مذكورة في الأناجيل الإزائية مجردة من أي ملامح شخصية تدل عليها أو تساعد في دراستها وتحليلها كمريم العذراء والدة يسوع المسيح, أندراوس, فيليبس, ثوماس.
تلك هي النقاط التي أثرتها في هاذا الموضوع والمتعلقة بالفروقات بين إنجيل يوحنا والأناجيل الإزائية الثلاثة(متى, مرقس, لوقا) ذكرتها بشكل مختصر حيث هناك مشاريع أخرى أقوم حاليا بكتابة رؤوس أقلام لتلك المشاريع ومتعلقة بتلك النقاط المختصرة لشرحها بالمزيد من التفصيل والتحليل.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment