قامت كل من الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية العثمانية بتوقيع إتفاق سنة 1899 متعلق ببناء خط سكة حديد برلين-بغداد والذي كان من المفترض أن يتصل بخط سكة حديد الحجاز في فترة لاحقة. بنك دوتشيه الألماني والذي قام بتمويل ودعم تكاليف إنشاء خط السكة الحديدية برلين-بغداد تمكن من تأمين موافقة السلطات العثمانية على إستثمار كافة مكامن المعادن وحقول النفط بعرض يبلغ 20 كيلومترا من جانبي الخط. علماء الجيولوجيا الألمان ومنذ سنة 1913 تحققوا رسميا من وجود النفط وبكميات كبيرة في المنطقة التي يمر بها خط السكة الحديدية خصوصا جنوب مدينة الموصل على طول المسافة الممتدة لنهر دجلة. إن الإطلاع على خط السير المقترح للسكة الحديدية يلاحظ أنه يتبع تلك المكامن البترولية بحيث تكون من ضمن حدود 20 كم المتفق عليها على كل جانب من جانبي خط سير السكة الحديدية.
السلطان عبد الحميد الثاني تنبه مبكرا للأطماع الأجنبية في نفط المناطق الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية خصوصا في منطقة الموصل حيث حاولت دول عديدة إرسال مندوبيها لشراء إمتيازات التنقيب في تلك المناطق حيث رفض السلطان العثماني ذالك فقامت بإرسال مندوبين لتلك المناطق بحجة التنقيب عن الأثار وتقديم قطع أثرية مزيفة للسلطان العثماني الذي كشف محاولتهم وطردهم. السلطان العثماني من ناحيته قام ولقطع الطريق على محاولات الدول الأجنبية بشراء أراضي في الموصل وضمها لأملاكه الخاصة كما قام بإصدار مرسوم سلطاني بحصر التنقيب عن النفط المكتشف في الأماكن الأخرى في العراق بالحكومة العثماني وبالعرش العثماني تحديدا. السلطان العثماني قبل بدخول ألمانيا على خط صراعه مع بريطانيا حول إمتيازات نفط الموصل لتحويل الصراع إلى صراع ألماني-بريطاني وتخفيف بعض الضغط البريطاني عنه.
الحكومة البريطانية والتي تمتلك حساسية عالية ضد أي تهديد محتمل لمصالحها في الهند قامت بعقد إتفاقية حماية مع الشيخ مبارك الصباح(مبارك الكبير) لقطع الطريق على المطامع الألمانية حيث وردتها معلومات عن نية السلطات الألمانية مد خط سكة حديد برلين-بغداد إلى الكويت.
البحرية البريطانية كانت على وشك إتخاذ خطوات لها علاقة بتحويل أسطولها البحري من إستخدام الفحم إلى النفط كما أن التحول الوشيك في التفكير الإستراتيجي البريطاني فيما يتعلق بالتخطيط للحروب أصبح يحتم على بريطانيا تأمين خطوط إمدادها النفطية. فبالإضافة إلى محاولتها قطع الطريق على المحاولات الألمانية فقد قامت بتقديم الدعم لشركة النفط الأنجلو-الإيرانية من أجل الحصول على إمتياز إحتكاري لها في إيران.
الحكومة البريطانية تحركت سريعا بسرعة الأحداث التي تلت إغتيال ولي عهد الإمبراطورية المجرية-النمساوية الأرشيدوق فرانسيس فيردياند وزوجته على يد الصربي غافريلوو برينسيب والذي يقال أنه كان عضوا بجمعية سرية صربية لها إرتباطات خارجية بريطانية وفرنسية, حيث قام أحد رجال الأعمال الأرمن من أصل تركي والذي يحملون الجنسية البريطانية كالوست جولبانكيان(Calouste Gulbenkian) بشراء حصة 50% من شركة النفط التركية من البنك القومي التركي من خلال شركة النفط الإنجلو-فارسية بالإضافة 25% كانت تمتلكها من خلال شركة نفط شل(Shell) والتي كان جولبانكيان حصة رئيسية فيها. الحكومة البريطانية بذالك أصبحت مالكة 75% من شركة النفط التركية مما أدى إلى تعطيل المشروع الالماني وتبدد أمال ألمانيا بسيطرتها على النفط وتهديد درة التارج البريطاني, الهند.
إنه بالتأكيد فإن أحد أسباب دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى والتي لم تأخذ حقها من النقاش التاريخي هي مشروع خط حديد برلين-بغداد والذي كان تهديدا جيو\سياسيا لمصالح بريطانيا لم يكن من الممكن أن تتغاضى عنه.
الحكومة البريطانية لم تدخر جهدا في الإسراع لتأمين حقول النفط في العراق ومن أجل الضغط على الحكومة التركية فقد قامت في مايو 1919 بتمويل وتسليح القوات اليونانية تحت سيطرة رئيس الوزراء اليوناني إلفثيريوس فينيزيلوس. الحكومتان البريطانية واليونانية كانتا تتفاوضان سرا من أجل تقسيم الكعكة التركية بالتوازي مع الإتفاقية البريطاني\الفرنسي المعروف بسايكس-بيكو حيث قامت بريطانيا بإعطاء الوعود لليونان بمنحها أراضي تركية فيما يعرف حاليا بأزمير مقابل إصطفاف اليونان إلى جانب القوات البريطانية والفرنسية في الحرب. قوات الغزو كانت يونانية بتمويل وتسليح من قبل الحكومة البريطانية وحلفائها حيث تم الضغط على تركيا لتوقيع إتفاق يقضي بدفع تركيا لتعويضات ضخمة نفقات بقاء قوات إحتلال أجنبية على الأراضي التركية وتنصيب لجنة إقتصادية أجنبية مشابهة لتلك التي تم تنصيبها للإشراف على التعويضات التي فرضت على ألمانيا إثر نهاية الحرب العالمية الثانية. اللجنة الأنجلو-فرنسية مخولة الإشراف على عائدات الضرائب, العملة الوطنية,الجمارك,القروض والميزانية العامة للدولة ولها حق الفيتو على أي قرار حكومي تركي بخصوص تلك الأمور.
الرياح في تركيا لم تسر بما تشتهي أشرعة السفن البريطانية والفرنسية حيث تمكنت القوات التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك من هزيمة قوات الحلفاء في معركة جاليبولي سنة 1915 الذي بلغت تقديرات خسائرهم بين 50 ألفا و 140 ألف حسب بعض التقديرات كما بلغت خسائر محاولة الغزو اليوناني لتركيا 300 ألف ضحية بين قتيل وجريح ومفقود وإنتهت بمعاهدة لوزان والإعتراف بإستقلا تركيا.
نتائج معركة جاليبولي كانت كارثية بالنسبة لبريطانيا حيث تسببت بضعف موقفها التفاوضي في إتفاقية سايكس-بيكو وقبلت بالتنازل لفرنسا عن منطقة الموصل العراقية الغنية بالنفط وسقطت حكومة رئيس الوزراء البريطاني هربرت أسكويث وسقط معها وينستون تشيرشل من منصبة كقائد للبحرية البريطانية.
الحكومة البريطانية برئاسة ديفيد لويد جورج والتي خلفت حكومة هربرت أسكويث قامت بالتراجع عن وعودها مع الفرنسيين بخصوص الموصل وقامت بضمها لمناطق الإنتداب البريطاني في العراق. بريطانيا لم تكن تتوفر على فائض من الجنود خصوصا بعد حرب مكلفة في الأرواح البشرية في أوروبا كما أن إستخدام اليونانيين كانت له أهداف مزدوجة. إن الحكومة البريطانية برئاسة لويد جورج هي التي قامت بتسليح وتمويل القوات اليونانية لتحقيق اهدافها في تركيا والعراق والتي تلخصت بإلهاء قسم كبير من القوات التركية حتى تنشغل بصراعها مع اليونانيين وتتمكن بريطانيا من فرض سيطرتها على العراق وخصوصا الحقول الغنية بالنفط في الموصل وكركوك.
الحكومة البريطانية ومن أجل تحقيق غايتها بأقل عدد من ممكن من الجنود كانت بحاجة للمراوغة حيث أرسلت إحدى عملائها السيدة غيرترود بيل وقامت بتزويدها بالمال اللازم لشراء ود زعماء القبائل العراقية والسياسيين العراقيين وخصوصا مايعرف بمجلس زعماء القبائل العراقية لتنصيب ملك على العراق يقبل بالوصاية البريطانية ومنح الشركات البريطانية حقوقا حصرية للتنقيب وإستخراج النفط في العراق.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
نهاية الجزء الثاني
No comments:
Post a Comment