هناك ثلاثة نقاط مهمة تمكننا من إلقاء نظرية أكثر واقعية على الإنجيل بحسب القديس يوحنا من ناحية أصله ومن قام بتأليفه. الأولى أن مؤلف الإنجيل هو إما يهودي أو خلفيته الثقافية يهودية. الثانية أنه هناك صوفية وأساطير يهودية أثر بشكل كبير على نصوص الإنجيل وساهمت في صياغة القصص التي وردت فيه. الثالثة أن الإنجيل بحسب القديس يوحنا يتحدى من يريد تفسيره بطريقة حرفية.
إن مؤلف ذالك الإنجيل على معرفة واسعة بالهوية اليهودية لفلسطين في تلك الفترة من الحكم الروماني ويستخدم كلمات تعبيرية لا يمكن أن تصدر إلا من شخص ذو خلفية يهودية وعلى معرفة واسعة بالثقافة والعادات والتقاليد السائدة في تلك الفترة.
كما أنه بالإضافة إلى كل ذالك فإن الإنجيل يحمل البصمة اليهودية في طريقته السردية للنصوص والتي تدل على معرفة واسعة وعميقة بأسلوب الحياة المتبعة بالكنيس اليهودي وخصوصا الأيام المقدسة عن اليهود. إن البصمة اليهودية واضحة في ذالك الإنجيل حيث أنه لم يتم مناقشة أي فكرة أخرى غير أصله اليهودي في تاريخ المسيحية الممتد لأكثر من قرنين من الزمان.
في فترة تاريخية تقترب من نهاية القرن الأول الميلادي بدأت المسيحية بالإبتعاد تدريجيا عن أصلها اليهودي والتوجه نحو التأثر بالفلسفة والأساطير والثقافة اليونانية. إنجيل القديس يوحنا كان نقطة الوصل بين المسيحية وعالم الثقافة والفلسفة الإغريقية وخصوصا إفتتاحية الإنجيل(يو1: 1-18) وتحديدا لفظة(لوجوس) والتي تعني الكلمة وقد تعني السبب أو المنطق. وعلى الرغم من أن الإنفصال بين المسيحية وأصولها اليهودية قد بدأ في تلك الفترة والإتجاه نحو اليونانية والتصوف إلا أن التأثيرات الإغريقية قد وجدت لها طريقا في زمن سابق من خلال الأناجيل الإزائية, رسائل القديس بولس, الرسائل الأخرى في العهد الجديد, سفر أعمال الرسل ورؤية يوحنا والتي كتبت باللغة اليونانية.
ولكن هناك معارضة لوجهة النظر تلك التي ترى أن الإنجيل بحسب القديس يوحنا هو إستثناء وأن التاثيرات اليونانية في باقي كتاب العهد الجديد هي في حدودها الدنيا وأن عدم وجود النسخ الأصلية التي يظن انها كتبت باللغة الأرامية لا يعني صحة وجهة النظر القائلة أن اللغة اليونانية هي اللغة الأصلية التي كتبت بها الأناجيل. هناك من يرى أن التأثيرات الأرامية في إستخدام بعض الألفاظ والمصطلحات وخصوصا في الحوارات التي دارت بين المسيح واليهود أو اتباعه في عدة مناسبات ترجح كفة كونها اللغة الأصلية التي كتب بها العهد الجديد بإستثناء القديس يوحنا وإنجيله وأن التاثيرات اليونانية هي من إضافة النساخ في فترة لاحقة ولا تدخل من ضمن النص الأصلي.
إن المخطوطات المكتشفة في البحر الميت سنة 1947 وسنة 1956 وكذالك مخطوطات نجع حمادي التي تم إكتشافها في مصر سنة 1948 قد ساهمت في توضيح الأصول اليونانية لإنجيل القديس يوحنا وخصوصا أن بعض تلك المخطوطات تعود لفترة سابقة لظهور يسوع المسيح وإنتشار المسيحية وحيث انها بعضها يحمل ملامح تقاليد غنوصية وفلسفة وأسلوب كتابة يونانية مما يساعد على إثبات أن بعض تلك التقاليد قد إنتقل إلى كتاب العهد الجديد حتى وصل إلى الذروة مع القديس يوحنا.
ولكن السؤال عن تلك النصوص التي وجدت في إنجيل القديس يوحنا والتي جعلت العلماء المختصين وعلى مر العصور يجزمون بكون كاتب ذالك الإنجيل يهودي أو متأثر بشدة بالفكر والعقيدة اليهودية.
(يو1: 36)(هَذَا هُوَ حَمَلُ اللهِ) وهي العبارة التي قالها يوحنا المعمدان حين كان واقفا مع إثنين من تلاميذه ومر به يسوع المسيح. إن تلك العبارة يمكن فهمها مباشرة من قبل اليهود حصريا فهي ليست بغريبة عليهم فهي ترجع في أصولها للطقوس والصلوات في الكنيس اليهودي وتفسيرات النصوص المقدسة المتعلقة بالمسيا المنتظر.
(يو1: 19-21) وبالتحديد(يو1: 20)( فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، بَلْ أَكَّدَ قَائِلاً: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ)(Messiah) وتلك لفظة تستخدم من قبل اليهود. ولكن لماذا في (يو1: 21) سألوه(مَاذَا إِذَنْ؟ هَلْ أَنْتَ إِيلِيَّا؟) لأن العقيدة اليهودية تمحورت حول فكرة ظهور اليشع ليقوم بالتمهيد لظهور المسيح أو (مسيا) اليهود حيث قام كاتب إنجيل القديس يوحنا بالتمهيد لتلك الفكرة في بداية إنجيله(1: 1-18).
(يو1: 38)(وَالْتَفَتَ يَسُوعُ فَرَآهُمَا يَتْبَعَانِهِ، فَسَأَلَهُمَا: «مَاذَا تُرِيدَانِ؟» فَقَالاَ: رَابِّي، أَيْ يَامُعَلِّمُ، أَيْنَ تُقِيمُ؟) ولكمة(رَابِّي - Rabbi) هي كلمة يهودية كما انه مرة أخرى في (يو1: 41) فإن أَنْدَرَاوُسُ شقيق سمعان بطرس قال لأخيه(وَجَدْنَا الْمَسِيَّا, أَيِ الْمَسِيحَ)(Messaih) وهي مرة أخرى لفظة يهودية أو تتمحور حولها عقائد ومعتقدات اليهود.
(يو1: 49)(فَهَتَفَ نَثَنَائِيلُ قَائِلاً: «يَامُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!») كما ان نَثَنَائِيلُ على معرفة بالتوتر الحاصل بين الجليل واليهودية حيث أنه سأل في (يو1: 46)(«وَهَلْ يَطْلُعُ مِنَ النَّاصِرَةِ شَيْءٌ صَالِحٌ؟») وذالك ردا على فِيلِبُّسُ نَثَنَائِيلَ الذي قال له في (يو1: 45)(«وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي الشَّرِيعَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ فِي كُتُبِهِمْ وَهُوَ يَسُوعُ ابْنُ يُوسُفَ مِنَ النَّاصِرَةِ»).
في الحوار الذي دار بين يسوع المسيح ونَثَنَائِيلُ أجاب يسوع ردا على وصف نَثَنَائِيلُ له بملك إسرائيل كما في (يو1: 50-51)(50)فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا!» (51) ثُمَّ قَالَ لَهُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ!». إن ذالك تشبيه مستعار من (تك28: 12) مما يدل على معرفة عميقة بنصوص العهد القديم وطريقة توظيفها عند الحاجة بإستعارتها في مكانها المناسب.
في الفصل الثاني من الإنجيل هناك قصة العرس في قانا الجليل وأجران الحجارة الستة كما أنه في (يو2: 13) هناك أول الإشارات لمشاركة يسوع المسيح في عيد الفصح وهو واحد من ثلاثة اعياد فصح شارك بها في إنجيل القديس يوحنا بينما في الأناجيل الأخرى فقد شارك في عيد فصح واحد.
الحوار بين يسوع المسيح ونيقوديموس حيث أشار يسوع المسيح إلى الروح القدس بمصطلح(الرياح) والكلمتين بالعبرية(Ruach -الروح القدس) و (Nephesh - الرياح) أو الرياح الخارجية والرياح الداخلية وهي مصطلحات يتم إستخدامها في المخطوطات العبرية بمعني الروح أو روح الرب. كاتب يهودي حصريا هو الذي سوف يكون على معرفة بتلك المصطلحات وإستخداماتها ومعانيها.
في الحوار بين يسوع المسيح والمرأة السامرية فقد ذكر أماكن ليست مألوفة لغير الفلسطيني اليهودي وهي مدينة سيخارة وبئر يعقوب.
مؤلف الإنجيل أبدى معرفة واسعة بأماكن في أورشليم مثل البركة عند باب الضأن والتي تسمى بيت حسدا والتي لها خمسة أروقة(يو5: 1-3). كما أنه على معرفة بالأسطورة المتعلقة بالخواص الشفائية لمياه البركة.
هناك الكثير مما لم أذكره وله علاقة بكون الإنجيل بحسب القديس يوحنا من تأليف يهودي في فترة متأخرة من القرن الميلادي الأول حيث أن مؤلف الإنجيل يبدو على معرفة واسعة بالأماكن اليهودية, الطقوس والممارسات الدينية والمناسبات والأعياد اليهودية. لغير اليهودي قد يبدو إنجيل القديس يوحنا غريبا نوعا ما وقد يبدو أيضا أن مؤلفه يوناني أو خلفيته الثقافية يونانية خالصة ولكن لليهودي فلن يكون من الصعب عليه تمييز الأصل اليهودي لمؤلف الإنجيل وكونه يحمل بصمة يهودية وتلك المسألة لم يختلف عليها المختصون لا في الماضي ولا في الحاضر.
مع تحياتي وتمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment