في كتابه "غرق الحضارات" الذي صدرت ترجمته الى العربية مؤخرا عن دار نشر الفارابي, يتحدث الكاتب الفرنسي من أصول لبنانية أمين معلوف عن سنة ألف وتسعمائة وتسعة وسبعون(1979) بوصفها سنة الإنقلاب الكبير. هناك عدد من الأحداث المتزامنة التي مر بها العالم خلال تلك السنة والتي كانت تقود عالمنا الكبير الى الإنكماش والانكفاء بسبب الإضطرابات والحروب والأزمات التي مر بها. بعض تلك الأحداث لم يذكرها أمين معلوف مثل إتفاق الولايات المتحدة والصين على إقامة علاقات دبلوماسية بينهما وتولي صدام حسين الحكم في العراق. بينما ذكر بعضها الآخر مثل نجاح الثورة الإسلامية في إيران وعودة الإمام روح الله الخميني وإعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحادثة اقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز دبلوماسيين رهائن, توقيع معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني, مارغريت تاتشر التي تنتمي الى حزب المحافظين البريطاني تفوز بمنصب رئيس الوزراء وتبدأ تطبيق سياسات إقتصادية محافظة, صدام حسين يتولى السلطة في العراق وثورة جهيمان العتيبي في المملكة العربية السعودية.
بحلول منتصف ليلة 31/يناير/1978, تم تبادل التهاني والمباركات بحلول السنة الجديدة وأنها تكون سنة سعيدة ولكن أحداث السنة التي سبقتها لم تكن تبشر بالخير. نظام الشاه محمد رضا بهلوي الموالي للولايات المتحدة يتعرض الى اضطرابات عميقة, الصراع على كرسي الحكم في العراق وصل الى ذروته بين أحمد حسن البكر وصدام حسين, مفاوضات مكوكية بين مصر ودولة الكيان الصهيوني, يوحنا بولس الثاني يعتلي سدة الهرم البابوي, إنتخاب دينج شياو بينج في منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني وغير من الأحداث التي كانت تنذر بأن السنة القادمة سوف تكون ساخنة وذلك ماكان.
كل تلك الأحداث كانت تسير بالعالم الى حافة الهاوية حيث إعادة استنساخ الصراع السني/الشيعي من خلال الحرب العراقية-الإيرانية والأحداث التي أدت الى إخراج مصر من الصراع العربي-الصهيوني وتوقيع معاهدة السلام في الولايات المتحدة. وحتى في الصين, تم عقد مؤتمر للحزب الشيوعي خلال الفترة 18-22/ديسمبر 1978 حيث أعلن الأمين العام الجديد للحزب الشيوعي الصيني دينج شياو بينج عن اتخاذ خطوات اقتصادية إصلاحية تعتبر البداية الحقيقية لنهضة الصين. كما كان انتخاب يوحنا بولس الثاني في منصب كرسي بطرس الرسولي في روما بداية عهد جديد من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية لعدة أسباب, أحدها أنه من أصول بولندية وهي سابقة لم تحصل منذ 400 سنة أن تم إنتخاب أسقف غير إيطالي لأعلى منصب في الكنيسة الكاثوليكية. يوحنا بولس الثاني كان مناهضا للشيوعية وزار بلده الأم بولندا سنة 1979 وألقى عددا من الخطب العلنية ضد الشيوعية مما اعتبر أول الشروخ في جسم الكتلة الشرقية.
كل تلك الأحداث التي جعلت العالم فوق برميل بارود ينتظر الإنفجار في أي لحظة حيث مازال آثارها ماثلة حتى هذه اللحظة. هناك الكثير من المعلومات حول عملية التدخل السوفياتي في أفغانستان تعتبر مجهولة للكثيرين منها أن الصين والتي كانت على خلاف عقائدي مع الإتحاد السوفياتي قد تعاونت مع الولايات المتحدة في تسليح المتمردين الأفغان خصوص بعد المصالحة بين الدولتين. حتى الجمهورية الإسلامية الإيرانية حديثة التكوين قد قامت بتسليح متمردين أفغان ممن ينتمون الى أقلية الهزارة الشيعية قاموا بعمليات ضد قوات الجيش الأحمر جنبا الى جنب مع مسلحين من المتشددين السُنَّة. سنة 1979 والتي تعتبر بداية عمليات التدخل الأمريكي في أفغانستان كانت تتويجا لمرحلة الصحوة الدينية التي انطلقت من المملكة العربية السعودية حيث كان لابد من تهيئة كامل الظروف لنجاح عمليات التدخل وضمان خروج الاتحاد السوفياتي من المعركة بخسائر كبيرة. أسامة بن لادن الذي برز نجمه لاحقا عندما أصبح زعيما لتنظيم القاعدة تتلمذ خلال فترة السبعينات في السعودية من خلال دروس ومحاضرات مشايخ الصحوة وعمل بداية من خلال أحد أشهر رموز تنظيم الإخوان المسلمين عبدالله عزام قبل أن ينفصل عنه في مرحلة لاحقة. إن سنة 1979 كان لها الفضل في بداية صعود قوى الإسلام السياسي التي وجدت في أفغانستان ملاذا لها من أجل التدريب والتسليح إستعدادا للمرحلة التي سوف ينفجر خلالها برميل البارود في وقت لاحق.
المثير للدهشة في عالم السياسة أن الولايات المتحدة حرَّضت الرئيس العراقي صدام حسين ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكانت تمده بالسلاح الذي يتم شرائه بأموال سعودية وكويتية, بينما كانت بينهما مصلحة مشتركية في في توريط الإتحاد السوفياتي أكثر وأكثر في المستنقع الأفغاني. كما يشاع على نطاق واسع أن مندوبين عن حملة الرئيس رونالد ريغان الإنتخابية قد قاموا بزيارة إيران في محاولة لإقناع القيادة الإيرانية بتأجيل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في محاولة للتأثير على قرارات الناخب الأمريكي. ويبدو أن تلك المساعي كانت ناجحة لأن إطلاق سراح الرهائن في اليوم التالي الذي حلف رونالد ريغان اليمين رئيسا للولايات المتحدة ليس مجرد مصادفة أو لعلها قد تكون كذلك. ولكن هل يمكن اعتماد نظرية المصادفة في وصول مجموعة من القادة في دول عربية وإسلامية وغربية من ذوي الميول المحافظة دينيا أو إقتصاديا الى دوائر صنع القرار في بلدانهم في توقيت متزامن؟ حتى في الصين, كان دينج شياو بينج يوصف بأنه محافظ قام بتصميم سياسات إقتصادية تماثل تلك التي قامت مارغريت تاتشر بتطبيقها في بريطانيا ورونالد ريغان خلال مرحلة لاحقة في الولايات المتحدة. كل ذلك صدفة أو نظرية المؤامرة أم سيمفونية من العازفين يقودها ويوجهها شخص مايسترو يقود فرقته من وراء ستار.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment