إن النظرية الكينزية والنظرية النقدية في طريقة تعاملهما مع الواقع الإقتصادي وطريقة جعلهما موضع التطبيق فإن ذالك يعني بلا شك مايشيه إعلان حرب, ولكن حرب من نوع أخر, حرب إقتصادية تهدف لسرقة النمو من دولة أو مجموعة دول أخرى. وعلى الرغم من عدم فاعلية النظريتين والكوارث التي نتجت عن تطبيقهما وخصوصا أنهما تؤديان إلى زيادة الدين الحكومي السيادي, فإنهما تتمتعان بمؤيدين ولاتزالان موضع التطبيق من قبل أغلب دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة. نظرة بسيطة إلى حزمة التحفيز التي أقرها الرئيس الأمريكي باراك أوباما إثر أزمة 2007\2008 الإقتصادية حتى نجد كلتا النظرييتين حاضرتين بقوة.
عندما يصبح الخيار الوحيد في حال تعثر الإقتصاد وتباطئ النمو الإقتصادي هو سرقة النمو من دولة أخرى عن طريق إجراء تخفيض على قيمة العملة, حيث يصبح ذالك أمرا ضروريا, عندها تبرز الحاجة للبحث عن حلول أخرى أكثر واقعية.
وقد برز مؤخرا من بين مجموعة نظريات مايعرف بإسم نظرية التعقيد(The complexity Theory) حيث أنه رغم صعوبة النظرية ظاهريا فإنها تستند إلى مجموعة مبادئ بسيطة, الأول هو أن الأنظمة المعقدة لا يكون تصميمها من الأعلى إلى الأسفل بل عبر تفاعل وتطور عدد لا يمكن إحصائه من الأجزاء التي تكون مستقلة عن بعضها البعض. الثاني هو أن تلك الأنظمة المعقدة تتمتع بخصائق تكون منبثقة مما يعني أن مجموع الكل أكبر من مجموع الأجزاء وأنه لفهم النظام فيجب النظر إليه ككل وليس إلى أجزائه المتعددة. الثالث هو أن تلك الأنظمة المعقدة تستهلك كميات متزايدة من الطاقة كلما زادت نسبة التعقيد. الرابع هو أن تلك الأنظمة معقدة للإنهيار بطريقة كارثية وذالك مرتبط بالمبدئ الثالث حيث يؤدي تناقص كميات الطاقة المتوفرة وصولا لنفاذها إلى تلك الإنهيارات الكارثية.
إن نظرية التعقيد تمتلك تطبيقات واسعة في مجموعة من العلوم منها الإنترنت وعلم الزلازل والمناخ وتحقق تقدما من جهة تطبيقها على أسواق المال والنقد ولكنها تواجه صعوبات متعلقة بالتفاعل بين الطبيعة الإنسانية وديناميكية الأسواق المالية.
إن الطبيعة الإنسانية والأسواق المالية والحضارة تعد أنظمة معقدة في ذاتها تشبه مايسمى دمى ماتريوشكا الروسية حيث ليس من الممكن فهم نظرية التعقيد بدون شرح مبسط لما يطلق عليه علم الإقتصاد السلوكي.
يعد علم الإقتصاد السلوكي المعاصر ذو جذور متعلقة بعلم الإجتماع في منتصف القرن العشرين. علماء الإجتماع المتميزون من أمثال ستانلي ميلغرام(Stanley Milgram) وروبرت ك ميرتون(Robert K Merton) قاموا بإجراء تجارب واسعة وتحليل معطيات متعددة لإكتشاف تصورات جديدة لفهم السلوك البشري.
إن المساهمة الأبرز لروبرت ك ميرتون مايطلق عليه النبوئة ذاتية التحقيق والتي تتلخص في أنه يمكن لبيان ما يعلن بوصف حقيقة حتى لو كان خاطئا أن يتحول لحقيقة فعلا إذا تغيرت معطيات ذالك البيان بطريقة تثبت المعلومات الخاطئة التي يحتويها. إن أحد أوضح الأمثلة على صحة نظرية ميرتون هو موجه التدافع لسحب الودائع من البنوك حيث لايوجد بنك يحتفظ بما قيمته 100% من قيمة الإيداعات والتي قد تكون بسبب شائعة تتحول إلى حالة ذعر وسحب المودعين لأموالهم مما يؤدي لإغلاق البنك لأبوابه وربما إعلان إفلاسه في مرحلة لاحقة. مثال أخر هو البنك الإستثماري بير ستيرنز(Bear Stearns) والذي صرح بتاريخ 12\مارس\2008 رئيسه ألان شوارتز(Alan Schwartz) قبل 48 ساعة من إعلان إفلاس البنك بأنهم لايواجهون مشكلة في السيولة المتوفرة لديهم مما أدى إلى حالة ذعر بين المستثمرين ومكاتب المضاربة في وول ستريت التي قامت بسحب أموالها من البنك.
في الفترة الممتدة بين سنتي 1950-1960 والتي تم فيها إجراء تجارب مزجت بين علم النفس الإجتماعي وعلم الإقتصاد حيث تم إعتبار نتائج التجارب في تلك الفترة ثورة وبمثابة إنقلاب إقتصادي على المفاهيم السائدة. أحد تلك التجارب يتعلق بالإجابة على سؤال حول هل يختار شخص ما إستثمارا بقيمة لنفترض أنها 100 ألف دولار بعائد 20% وضمان 100% أم إستثمار لنفس المبلغ ولكن مع عائد 40% وضمان 80%؟ إن تلك القيم هي إفتراضية ولكن المفاجئة أن إختيار أغلب المشاركين كان الإستثمار المضمون 100% ولو بعائد أقل.
تلك التجارب التي قام بإجرائها دانيال كهنمان ومجموعة من زملائه أن الإختيارات التي يقوم بها البعض تكون متعلقة بطريقة طرحها حتى لو كان هناك خيارات أخرى مطروحة تؤدي للنتيجة نفسها حيث ظهرت مجموعة مصطلحات لأول مرة منها اليقين(Certainty), الإرساء(Anchoring), العزل(Isolation), التأطير(Framing) والإستدلال(Heuristics).
تم إستخدام علم الإقتصاد السلوكي من قبل البعض ليس من أجل التنوير والمزيد من المعرفة في ذالك المجال بل من أجل التلاعب وهناك أمثلة عديدة تثبت ذالك منها حملة بن برناركي حين كان رئيسا لبنك الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي من أجل زيادة التوقعات بزيادة نسبة التضخم حيث قام بطباعة الدولار لتخفيض قيمته مع الإبقاء على سعر الفائدة منخفضا كما أن هناك حملات دعاية تضليلية كان يتم التخطيط لها في إجتماعات غير معلنة بين مستثمرين ورجال أعمال ومدراء لشركات كبرى مع مراسلين إقتصاديين مثل حملة البراعم الخضر(Green Shoots) سنة 2009 وصيف الإنتعاش(Recovery Summer) سنة 2010 والتي كانت تهدف لإقتاع الرأي العام بإنخفاض معدل البطالة وتحقيق النمو الإقتصادي بينما كان هناك حوالي 40 مليون مواطن أمريكي يستعملون قسائم الطعام الحكومية.
إن علم الإقتصاد السلوكي يمكن إستخدامه بكفائة للإجابة على الكثير من الأسئلة حول سلوكيات تؤدي إلى نتائج إقتصادية معينة ولكنه ليس ملائما لجعل نظرياته قيد التطبيق في المسائل الإقتصادية.
إن المؤيدين للنظرية الكينزية في مناسابات مختلفة يصرحون بأنه في ظروف الأزمات الإقتصادية فإن المواطنين يميلون للإدخار مما يزيد من عمق الأزمة لأنه يؤدي إلى تناقص في الإنفاق ويؤثر ذالك على أصحاب الأعمال بما قد يؤدي إلى تزايد نسبة البطالة. التوقعات كانت أن زيادة الإنفاق الحكومي سوف تؤدي إلى تقليص الفجوة التي تسبب بها ضعف الإنفاق الخاص وتلك نظرية أثبتت فشلها في مناسبات عديدة حيث أن زيادة الإنفاق الحكومي يؤدي إلى زيادة الدين السيادي بما يفقد الناس الثقة بالمستقبل وينتج عنه زيادة نسبة المدخرات الخاصة.
إن أفضل وسيلة لفهم الأنظمة المعقدة هي مقابلتها بما هو أقل منها تعقيدا كالساعات السويسرية حيث أن أنظمتها متشابكة ولكنها ليست معقدة, تتلامس ولا تتفاعل.
تتكون الأنظمة المعقدة بداية من مجموعة عوامل فردية يمكن تسميتها بالعوامل المستقلة التي تتخذ القرارات ضمن المنظومة وكلما تنوعت تلك العوامل كانت المنظومة أكثر تعقيدا بسبب زيادة تنوع القرارات التي تتخذها تلك العوامل. مثال على العوامل في المنظومة هي مجموعة كائنات بحرية أو مستثمرين في أسواق الأسهم والسندات.
الترابط بين تلك العوامل يشكل العنصر الثاني في المنظومة المعقدة بشرط أن تكون تلك العوامل تمتلك وسيلة للترابط مع بعضها البعض. شبكة الكهرباء أو مواقع التواصل الإجتماعي مثل تويتر تكون مثال تطبيقي مناسب لتلك الحالة.
العنصر الثالث هو التكافل بين تلك العوامل حيث تؤثر ببعضها البعض فلو أن شخصا غير متأكد من الطقس في الخارج حيث ينظر من النافذة ويرى الناس يرتدون معاطف والإحتمال الأكبر أن يقوم بتقليدهم. وفي المجمل فإن القرار الذي يتخذه يتأثر ذالك الشخص سوف يكون متأثرا بشكل كبير بأفعال الأخرين.
العنصر الرابع والأخير هو التكيف حيث لايعني تحديدا التغيير بل التعلم من أفعال وتجارب الأخرين حيث يتشارك مجموعة من الناس تجربة معينة بدون أن يمروا بها شخصيا, إذ يكفي أن يمر بها أحدهم.
لفهم الكيفية التي تعمل بها الأنظمة المعقدة يجب علينا النظر في قوة ترابط العوامل الأربعة السابقة الذكر بمنحها درجات من 1 إلى 10. عند الدرجة 1 فأن التنوع منخفض والترابط والتكافل ضعيفا المستوى ولكن عند الدرجة العاشرة تصبح الأمور فوضوية ويعوق تدفق الإشارات المتناقضة عملية إتخاذ القرار بينما يكون النظام المعقد مثيرا للإهتمام بين درجة 3 ودرجة 7 ويطلق عليه المتوسط المثير للإهتمام حيث إنسيابية المعلومات والتفاعل والتعلم بين مختلف العوامل ولكن بدون الوصول لدرجة الفوضوية. إن تلك الحالة المتوسطة للمنظومة المعقدة هي التي تنتج أفضل النتائج بدون أن تنهار المنظومة وهي تمثل لب التعقيد لتلك المنظومة.
هناك ميزتان إضافيتان تتمتع بهما الأنظمة المعقدة ويعدان من الأهمية في حال تطبيقهما في مجال أسواق العملات والدولار, تلك الميزتان هما الخصائص الناشئة والمراحل الإنتقالية.
من الممكن أن نستعين بحالة الطقس كمثال لتوضيح الأنظمة المعقدة حيث أنه من الممكن توقع الطقس خلال فترة زمنية لا تتجاوز أربعة أيام. الأعاصير تعد من الخصائص الناشئة في حالات الطقس حيث أن جميع عناصر الإعصار من إنخفاض ضغط الهواء, المياه الدافئة وظاهرة الحمل الحراري يسهل مراقبتها ولكن الإعصار من الممكن ملاحظته حين حدوثه ولا يمكن التنبؤ بتوقيت وقوعه.
الوعي(الضمير) الإنساني يعد أحد أفضل الأمثلة على ميزة الخصائص الناشئة التي تميز الأنظمة المعقدة حيث ان جسم الإنسان يتألف من الأكسجين, الكربون, الهيدروجين وبعض النحاس والزنك ولكننا لن ننتج شيئا مفيدا في حال وضعنا تلك المكونات في قارورة وعرضناها لتيار كهربائي. ولكن من خلال إمتزاج تلك المكونات في الحمض الوراثي بترتيب معين تنتج الكائن الإنساني. إن قوة التعقيد هي التي تنتج تلك القدرات بإستخدام تلك المكونات بالذات. إن الفكر يتكون في عقل الإنسان بنفس الديناميكية المعقدة التي يتكون بها الطقس. ثورة البراكين بعد فترة سكون وإنخفاض قيمة الدولار نتيجة إرتفاع سعر الذهب هي أمثلة على المراحل الإنتقالية التي تتميز بها الأنظمة المعقدة.
النهاية
No comments:
Post a Comment