إن أي نظام معقد(Complex System) لا يملك القدرات للمرور بمرحلة إنتقالية بدون أن يصبح في حالة حرجة حيث تصطف مجموعة العوامل التي يتكون منها ذالك النظام بطريقة تجعل كل واحد منها يطلق الأخر الذي يليه مما يؤدي إلى تغير المنظومة بأكملها بشكل جذري. في هذه الحالة فإن الإنهيارات الثلجية قد تمثل مثالا جيدا على الإنتقال المرحلي في نظام معقد يمر بحالة حرجة. أكبر كمية من الثلج قد على منطقة مسطحة قد لا تشكل أي خطر ولكن كمية بسيطة من الثلج قد تشكل خطرا إذا تساقطت على منحدر حيث أن ندفة ثلج واحد قد تؤدي إلى تدحرج نطفة أخرى وهكذا دواليك حتى يتشكل إنهيار ثلجي كامل.
في عالم الإقتصاد والتجارة فإن إنهيار البورصة يشبه الإنهيار الثلجي حيث قد تبدأ العملية بأمر بيع صغير يطلقه مستثمر مذعور فينتشر الخبر بالبورصة ويصل لمستثمرين أخرين فتنهار البورصة كما حصل سنة 2007\2008. وقد يوقف تدخل ما من خارج المنظومة ذالك الإنهيار كتدخل بنك الإحتياطي الفيدرالي أو إيقاف مؤقت للبورصة حتى يتوقف ذالك الإنهيار ويستعيد النظام توازنه.
هناك مفهومان أخران من الضروري التعريف بهما في سبيل فهم أكبر لنظرية التعقيد, المفهوم الأول هو درجة التوزيع والتي تعني بعدد المرات التي تحصل فيها الأحداث القصوى مقارنة بالأحداث الأقل منها درجة أو العادية. المفهوم الثاني هو درجة الحجم.
من الممكن أن يفيدنا منحنى جرس درجة التوزيع في الإقتصاد المالي أن الأحداث العادية تحصل بشكل متكرر بينما الأحداث القصوى لا تحصل أبدا ولكن منحنى الجرس ليس إلا نوعا واحدا من درجة التوزيع ويوجد غيره الكثير. إن منحنى درجة التوزيع الذي تصف الأحداث في الأنظمة المعقدة يوصف بمنحنى القدرة.
إن الأنظمة كلما إزدادت تعقيدا تزداد درجة المخاطرة وحاليا فإن الأسواق المالية تشكل أنظمة معقدة لا مثيل لها بسبب وجود ألاف من المستثمرين والمضاربين والمتداولين الذين يقومون بدور العوامل المستقلة التي تتنوع من حيث مواردها ورغبتها في المجازفة.
التكافل يعد أحد الميزات التي تتمتع بها الأسواق المالية. خلال أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة سنة 2007\2008 فقد إحتار المستثمرون اليابانيون في سبب تأثير تلك الأزمة على وضعية الأسهم اليابانية. السبب هو أن الأسهم اليابانية كان من الممكن تسييلها لتغطية وضعيات خاسرة في أزمة الرهون العقارية الأمريكية.
هناك دلائل أخرى تشير الى كون أسواق المال تعتبر أنظمة معقدة. أنماط السعر المتكررة من الممكن أن تعبر عن الخصائق المنبثقة حيث تثير حماسة المستثمرين والمتداولين. كما أن الصعود(Peak) والهبوط(Valleys) والإرتفاعان المتتاليان(Double Tops) ونمط الرسم البياني المعكوس(Head and Shoulders) أمثلة تقنية على الإنبثاق من نظام التعقيد بشكل عام. فقاعات السوق وإنهياراته من الممكن أن تعبر عن التحولات الطورية\التغيرات السريعة القصوى.
كنت قد ذكرت من قبل عدة مرات أن أساس نجاح أي نظام مالي أو عملة هو ثقة المواطنين بذالك النظام أو تلك العملة. الخسائر المبدئية في أزمة 2007\2008 الإقتصادية هي 300 مليار دولار وذالك مبدئيا بسبب الرهون العقارية ولكن الذعر الذي رافق عمليات البيع المبدئية أدى إلى إنتشار الأزمة وإستفحالها وتحولها من مجرد أزمة مالية إلى إنهيار إقتصادي شامل بسبب عمليات مكثفة من قبل الكثير من المستثمرين للتخلص من كافة الأسهم التي لديهم خوفا من إنهيار أسعارها.
إذا فقد المواطنون الأمريكيون ثقتهم بعملتهم(الدولار) فإن المستثمرين بالتالي سوف يفقدون ثقتهم وسوف يبدأ الإنهيار تدريجيا ثم بشكل فجائي. برنامج التيسير الكمي في الولايات المتحدة سوف يجبر البلدان الأخرى على إعادة تقويم عملاتها وينتج بالتالي يساهم بإضعاف الدولار وذالك ماسوف يعتبر إنتصارا مرحليا ولكن الحقيقة هي بداية الإنهيار حتى تقرر الدول التي تضررت من تلك السياسة أن تستبدل الدولار بعملة إحتياطية أخرى أو حتى التخلص منه في إجتماع سري. هناك بالفعل دعوات علنية من قبل عدة دول تتصدرها الصين وهي الأكثر تضررا من سياسة التيسير الكمي لإستبدال الدولار بعملة أخرى تكون مدعومة من قبل عدة دول وتشكل العملة الإحتياطية العالمية.
ولكن هل وصل المواطنون الأمريكيون إلى مرحلة فقدان الثقة والتي يطلق البعض من الإقتصاديين على تلك المرحلة, النقطة الحرجة؟
النقطة الحرجة على الأقل من مفهوم إقتصادي هي اللحظة التي ينحدر فيها المؤشر الإقتصادي ويصبح من الصعب بل من المستحيل وفق بعض وجهات النظر إصلاحه إلا أن يبدأ من نقطة الصفر وذالك هو الإنهيار الشامل.
هل وصلت الولايات المتحدة الأمريكية لتلك النقطة أو إقتربت منها؟
المشكلة أن المصالح هي وراء جميع القرارت المتعلقة بالإقتصاد في الولايات المتحدة, وأعني مصلحة النخبة الإقتصادية وول ستريت حيث تمتلك لوبيات ضغط تمكنها من حماية مصالحها. تلك اللوبيات كانت وراء إلغاء قانون(Glass-Steagall) في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون حيث صدر القانون سنة 1933 إثر الأزمة الإقتصادية ونص على الفصل بين المصارف التجارية والمصارف الإستثمارية. إلغاء القانون أدى إلى نتائج كارثية قادت إلى أزمة 2007\2008 بسبب الدمج بين البنوك التجارية والإستثمارية التي ضاربت بأموال المودعين في أدوات إستثمارية إحتيالية وإمتلكت بالتالي كمية كبيرة من الأصولة المسمومة(المعدومة القيمة) حيث أدى ذالك الدمج إلى ظهور أنواع من البنوك والتي تعد أكبر من أن يسمح لها بأن تخفق بسبب تداعيات إخفاقها على مجمل الإقتصاد في الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة قطعت شوطا طويلا في الوصول إلى تلك النقطة الحرجة حيث يقفد مواطنوها ثقتهم بالنظام المالي والإقتصادي بشكل عام وذالك بسبب أن المجهود الأكبر الذي يبذله الكثير من الناس لايعود عليها إلا بأقل القليل بينما تستولي تلك النخب على أغلب الأرباح والعائدات. إن ذالك يماثل الذي حصل للإمبراطورية الرومانية وإجتياحها على أيدي القبائل البربرية حيث أرهقت مجموعة عوامل المواطنين الرومانيين ونسبة كبيرة منهم كانت من الفلاحين وجعلتهم يرحبون بتلك القبائل كمخلصين. تلك العوامل بدأت بإنهيار إقتصادي سببه إتساع رقعة الدولة الرومانية بطريقة جعلت حكمها مركزيا مهمة مستحيلة حيث تضخمت النفقات بسبب تضخم البيروقراطية الإدارية مما أدى إلى إعادة تقييم العملة الرومانية والذي أدى بالتالي إلى تضخم وفرض المزيد من الضرائب وصولا إلى إنهيار إقتصادي شامل. فالمهم هنا ليس تعرض الدولة الرومانية لغزوات البرابرة أو لكوارث طبيعية فهناك أمم ردت الغزوات من على حدودها عدة مرات كما أن دولا وحضارات اعادت بناء نفسها بعد الكوارث الطبيعية, بل المهم هو ردة الفعل, الفرق بين الإرادة والإستسلام.
الدولة الرومانية إنهارت كوحدة إدارية وكحضارة لأنه لم يوجد البديل بينما في أوروبا لم تنهر الحضارة الأوروبية لأنه كان هناك دائما بدائل دول تملأ الفراغ, فإنهيار إسبانيا أو البندقية قابله نهوض إنجلترا أو هولندا وهكذا دواليك. ولذالك فعلينا أن نفرق بين إنهيار حضارة(فنون,ثقافة,علوم,أداب) وبين إنهيار دولة(وحدة إدارية).
تسهيل المفهوم الريعي للدولة على حساب المفهوم الإنتاجي هو خطأ قاتل يتم إرتكابه في حالة إتساع المجتمع بطريقة تتطلب المزيد من المبالغ المالية لدعمه وإبقائه في حالة مقبولة مما يستحيل معه في تلك الحالة جمعها من خلال الضرائب والإنتاج. الحل في تلك الحالة هو تشجيع كافة أنواع المال الزائف(الإقتصاد الوهمي) عن طريق المضاربات والرفع المالي وتخفيض قيمة العملة والذي هو في الحقيقة نوع أخر من انواع الغزو الناعم ولكن النهاية المحتومة هي الإنهيار الإقتصادي بسبب إتساع التفاوت في المداخيل مما يؤدي إلى زيادة الشرخ الإجتماعي والفروق الطبقية.
فهل الولايات المتحدة هي روما الجديدة؟
النهاية
No comments:
Post a Comment