كمقدمة للموضوع أحب أن أذكر بقاعدة أساسية من الممكن تطبيقها ليس فقط على النفط بل وعلى أي سلعة أخرى وهي أنه في حال تأرجح أسعار أي سلعة صعودا وهبوطا بشكل متذبذب وأحيانا عدة مرات خلال اليوم الواحد و من دون أن يكون هناك أي تغير في قاعدة العرض والطلب فإن هناك شبهة بعمليات مضاربة وتلاعب تجاري.
يتسائل الكثيرون بخصوص إعلان الولايات المتحدة تحقيق الإكتفاء الذاتي من إنتاج النفط سنة ٢٠١٤ وعن تأثير ذالك على سعر البرميل وخصوصا أن ذالك الإعلان قد يؤدي إلى إنخفاض كبير في سعر النفط, فأقول لمن إستعجل الإجابة على ذالك التسائل, تمهل ولا تستعجل. سبب طلبي التأني في الحكم على مثل تلك الأمور هي أن أسعار النفط تتعرض للكثير من عمليات التلاعب والمضاربة كما أن التغيرات السعرية لبرميل النفط في كثير من الأحيان تكون غير مفهومة, سعر البرميل في تزايد في فترة إنخفاض الطلب والعكس صحيح. وللتوضيح فذالك ليس تلاعبا سعريا حسب التعريف الذي ذكرته في المقدمة حيث أن المعاكسة السعرية لقانون العرض والطلب تكون مستقرة غير متذبذبة لفترة زمنية قد تطول أو تقصر وهي محكومة بعوامل لم يستطع الكثيرون تفسيرها حتى الأن.
إعلان الولايات المتحدة تحقيق الإكتفاء الذاتي من إنتاج النفط سنة ٢٠١٤ له منافع سياسية داخلية وخارجية لاتعد ولا تحصى حتى لو لم يكن الخبر حقيقة على أرض الواقع. وبخصوص ذالك فسوف أكتفي بإيراد نقطتين أمر عليهم سريعا فبالنسبة لي شخصيا فأنا لا أثق ببيانات شركات النفط الأمريكية وهذه ليست أول مرة تقوم فيها تلك الشركات ببث تلك النوعية من الأخبار. أول تلك المنافع هي إنتخابية داخلية متعلقة بمطالبات الناخب الأمريكي بضمان عدم تكرار أزمة المقاطعة النفطية سنة ١٩٧٣ خلال حرب أكتوبر والتي قفزت بسعر برميل النفط ٥٠٠% وجعلت الأمريكيين يصطفون طوابير بسياراتهم أمام محطات الوقود وتم سن قوانين تحديد السرعة على الطرق السريعة وغير ذالك من القوانين التي هدفت لترشيد إستهلاك النفط والطاقة بشكل عام. مجرد فكرة تكرار ذالك السيناريو يشكل كابوسا بالنسبة لأي رئيس أمريكي من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري لايهم.
ثاني تلك المنافع سياسية خارجية متعلقة بالقرار السياسي الأمريكي وعدم إرتباطه بإحتياجات الولايات المتحدة من الطاقة حتى لو كان ذالك الإرتباط نظريا وليس عمليا على أرض الواقع. وقد يسأل بعضهم عن توضيح لتلك النقطة وهنا نستطيع ذكر فنزويلا كمثال أو اللوم الذي يوجه للولايات المتحدة على إهتمامها بمصالحها على حساب قيم الحرية والديمقراطية ولكن المشكلة أنه في عالم السياسة والمصالح فما يجري أمام عيني وعينك يعد كجبل الجليد, نرى قمته بينما كتلته الأكبر غير مرئية بالنسبة لنا.
وللحديث عن العوامل المتحكمة بتسعيرة برميل النفط فإن أول تلك العوامل وأهمها والتي لاتخطر على بال الكثيرين هي لمن تعود ملكية شركات النفط وحقوق الإستخراج؟ في دولة مثل النرويج, تملك شركات النفط الأجنبية(الخاصة) حقوق الإستخراج ولكن معدل الضريبة المفروض عليها قد يصل إلى ٧٨% كما أن الأولوية لشركات النفط الوطنية مايشبه نظام الكفيل في بعض الدول كما أنها ملتزمة بسياسة الدولة المتعلقة بعدم الإفراط في إستخراج النفط والإبقاء على مستوى إحتياطي مستقبلي مقبول منها. دول مثل أمريكا وكندا شركات النفط لها الكلمة العليا بخصوص الجهة التي ترغب في بيع وهي شركات خاصة وتملك حقوق الإستخراج بل وتتمتع بإعفائات ضريبية ودعم حكومي ونفوذ هائل ولوبيات ضغط تتحكم في كثير من الأحيان بسياسات الحكومة نفسها لتتماشى مع مصالح شركات النفط.
ثاني تلك العوامل بالسؤال التالي وهو إذا كانت شركات النفط تتمتع بإعفائات ضريبية ودعم حكومي مرتبط بسعر معين لبرميل النفط, فماهو مصير ذالك الدعم في حال إرتفاع سعر برميل النفط لمبلغ ٣٠٠ دولار مثلا؟ وهل سوف تواصل الحكومة تقديم الدعم لشركات النفط للإبقاء على سعر البيع في محطات الوقود عند مستوى سعري معين وكذالك أسعار الطاقة الكهربائية التي يتم تزويد المنازل والمصانع بها؟
ثالث تلك العوامل هو إرتفاع مستوى الدين الحكومي الأمريكي إلى مستويات تنذر بكارثة إقتصادية لم يسبق لها مثيل سوف تؤثر ليس فقط على الولايات المتحدة بل على العالم بإجمعه حيث أن البيانات والمؤشرات تماثل ماكانت عليه سنة ١٩٢٩ فيما يعرف بكارثة الإثنين الأسود حيث يتوقع الخبراء فترة كساد إقتصادي عالمي لمدة لاتقل عن ٢٥ سنة.
والسؤال هنا ماهي قدرة الحكومة على تقديم الدعم والإعفائات الضريبية لشركات النفط في حال إرتفاع الدين الحكومي العام وخدمة ذالك الدين(الفوائد) والتي سوف تلتهم حصة كبيرة من الميزانية السنوية مضافا إليها إرتفاع سعر برميل النفط؟
ثالث تلك العوامل متعلق بنوعية النفط المستخرج وتكلفة إستخراجه فكما هو معروف فإن إستخراج النفط يكلف نفطا, أو بصورة أوضح توليد الطاقة يكلف طاقة. النفط الخام يختلف عن النفط الصخري أو النفط الرملي من ناحية سهولة الإستخراج وتكلفته والأهم هو معادلة الإستهلاك \ الإستخراج والتي تعني كم برميل نفط تم إستهلاكه في عملية الإستخراج مقابل كم برميل نفط ناتج تلك العملية.
أما بالنسبة لنوعيات النفط فالنفط الخام مثال عليه الحقول الموجودة في دول الخليج العربي وأغلب النفط المتواجد فيها من تلك النوعية ومعادلة الإستهلاك \ الإستخراج هي ١ إستهلاك \ ١٠٠ إستخراج. النفط في دول مثل كندا هو في أغلبه نفط صخري كما أن هناك حقول نفط بحرية حيث أن تكلفة إستخراج النفط البحري هو الأكثر كلفة. معادلة لإستهلاك \ الإستخراج بالنسبة للنفط الرملي قد لا تتعدى ١ إستهلاك \ ٣-٤ إستخراج في أكثر الحالات تفائلا كما أن النفط البحري يتمتع بمعدل إستخراج مقبول ولكنه مكلف ويتطلب مستوى سعري معين لبرميل النفط حتى يصبح الإستخراج مجديا إقتصاديا. أمريكا تتوفر على عدة أنواع من النفط كانت الهيمنة في فترة من الفترات لنفط تكساس وهو من نوعية النفط الخام السهل الإستخراج وهناك النفط الصخري حيث كانت التوقعات أن إستخراجه هي التي سوف ترجح ميزان أمريكا لتصبح دولة ليس فقط مكتفية ذاتيا من النفط بل دولة مصدرة له. ولكن بالنسبة لأمريكا فإن الهيمنة هي لحقول النفط التي تقع في الجزء الأمريكي من خليج المكسيك وكذالك هناك أمال بزيادة الإستخراج من حقول نفط بحر الشمال وخصوصا في منطقة ألاسكا وهي حقول إستخراج النفط فيها عالي التكلفة كما أنه يجب الإبقاء على سعر برميل النفط عند مستوى معين لايقل عن ١٠٠ دولار حتى يكون الإستخراج مجديا من الناحية الإقتصادية.
رابع هذه العوامل والتي قد يغفل عنها البعض متعلق بقيمة الدولار الأمريكي والجهود المبذولة من قبل بنك الإحتياطي الفيدرالي لإضعاف الدولار عبر مايسمى التسهيل الكمي(Quantitative Easing) وذالك لجعل الصادرات الأمريكية وخصوصا النفط ذات تنافسية في السوق العالمية وحتى تتمكن أمريكا من التحكم بسوق الطاقة العالمي بإستخدام النفط المستخرج من الحقول الأمريكية نفسها. أما بالنسبة للتسهيل الكمي فهو بإختصار طباعة العملة - الدولار بدون غطاء حقيقي (Out Of Thin Air) وبدون نمو إقتصادي يبرر الحاجة لطرح تلك الكميات الضخمة من العملة للتداول حيث يطلق على العملات الورقية بشكل عام (Fiat Currency) منذ التخلي عن الذهب كغطاء للعملات. مشكلة (Quantitative Easing) أنه يؤدي إلى تضخم(Inflation) قد يخرج عن السيطرة ويتحول إلى تضخم مفرط(Hyperinflation) وهو مايؤدي إلى إرتفاع الأسعار بما يشمل النفط وحتى سعر البيع في محطات الوقود سوف يرتفع بشكل كبير.
أربعة عوامل تؤثر على سعر النفط ذكرتها لكم ترتيبا بحسب اهميتها برأي وذالك لايمنع كون البعض قد يرى وجهة نظر مخالفة ولكن لتكتمل الفكرة لابد من تقديم صورة عن وضع الولايات المتحدة في الأسواق النفطية بشكل عام ورأي الشخصي بصحة الأخبار عن تحقيق الولايات المتحدة الإكتفاء الذاتي من النفط سنة ٢٠١٤.
الولايات المتحدة تستهلك ٢٥% تقريبا من إنتاج النفط العالمي البالغ ٨٠ مليون برميل على الرغم من تعداد سكان لايزيد عن ٤% من المجموع السكاني العالمي. إنتاج الولايات المتحدة النفطي وصل قمة الذروة(Peak Production) سنة ١٩٧٥ ثم بدأ بالتناقص من ٩.٥ مليون برميل تقريبا إلى ٤-٥ مليون برميل يوميا مع معدل إستهلاك يبلغ ٢١ مليون برميل يوميا, إحصائيات ٢٠٠٥ حسب موقع ويكيبيديا. بعض الإحصائيات سنة ٢٠١٣ تذكر أن الولايات المتحدة تستهلك في الوقت الحالي ١٩ مليون برميل يوميا وقد يكون ذالك من أثار الأزمة المالية ٢٠٠٧ - ٢٠٠٨ والكساد الإقتصادي ونزوح القاعدة الصناعية للصين حيث توفر الأيدي العاملة الرخيصة. الفرق في الأرقام هنا ليس بذي أهمية حيث أنها معرضة للتغير ولو بنسبة بسيطة ومازال الفرق كبيرا بين ١٩ مليون برميل معدل إستهلاك و ٨.٩ مليون برميل معدل إنتاج فمازال الفارق كبيرا حتى تبلغ الولايات المتحدة مرحلة الإكتفاء الذاتي فما بالكم بتصدير النفط بكميات تسمح لها بالتحكم بالسوق العالمية مكتفية بإنتاجها الخاص من النفط.
وقد يسأل البعض عن تلك الأخبار المتناقضة والتصريحات بخصوص هل تحقق الولايات المتحدة الإكتفاء الذاتي سنة ٢٠١٤ وقد تصيب البعض بالإرتباك ولكن المسألة بإختصار أن الولايات المتحدة قامت بتصدير ٣.٧ مليون برميل في اليوم نتيجة زيادة إنتاج النفط في حقول الجزء الأمريكي من خليج المكسيك بنسبة ٧٢% وذالك لأسواق تقع على مسافة تجعل تصدير النفط إليها مجديا من الناحية الإقتصادية وكذالك لقدرة مصافي النفط الأمريكية والتي تقع على مسافة قريبة من حقول النفط البحرية في الجزء الأمريكي من خليج المكسيك. إلى هنا والخبر صحيح ولكن من الناحية الأخرى فإن هناك ولايات أمريكية فضلت إستيراد النفط ومشتقاته من كندا لمجموعة أسباب لعل أهمها عدم قدرة مصافي النفط الخاصة بها على تكرير نوعية النفط المستخرج من خليج المكسيك والأهم من ذالك أن كلفة نقل النفط من خليج المكسيك إلى تلك الولايات مثل إلينوي وأوهايو تجعل الفكرة عالية التكلفة مع الملاحظ أن أغلب شركات النفط في كندا هي إما أمريكية أو شركات مشتركة تقع مجالس إدارتها تحت سيطرة أعضاء أمريكيين ولعل ذالك بالإضافة إلى كون شركات النفط في كندا هي شركات خاصة قد يفسر إرتفاع أسعار الوقود في كندا مقارنة بكونها دولة مكتفية ذاتيا بل ومصدرة ذات تأثير على سوق النفط العالمي.
في الختام أحب أن أذكر بتأثير الأزمات الإقتصادية والكساد الإقتصادي أو إنتعاش الإقتصاد على سعر النفط حيث يلعب ذالك دورا في تحديد السعر وإن كان الإرتفاع أو الإنخفاض في سعر البرميل قد يكون عكسيا وغير مفهوم في بعض الأحيان كما أوضحت في بداية الموضوع. يكفي القول أنه خلال أزمة ٢٠٠٧ - ٢٠٠٨ حيث إنخفض سعر برميل النفط في فترة معينة فإنه تم إلغاء مشاريع نفطية حول العالم بمئات المليارات وخصوصا في كندا حيث تم إلغاء ماقيمته ٥٠ مليار دولار من مشاريع التوسعة النفطية لحقول النفط الرملي في ولاية ألبرتا. على كل حال فإن حتى لو إنخفض الطلب الأمريكي على النفط وتحقق الإكتفاء الذاتي بل والقدرة التصديرية لكامل الولايات الأمريكية وليس كما أوضحت سابقا, فإن هناك دولار لعل أهمها الصين والهند سوف تكون سعيدة جدا بتلك الأخبار حيث سوف تتوفر على كميات إضافية من النفط حتى لو كانت بمستوى سعري يصل إلى ١٠٠ دولار أو بأعلى من ذالك.
الموقف الأن برأي زيادة في الإستهلاك ومستوى إنتاج يلبي ذالك بصعوبة شديدة والإكتشافات الجديدة لا تلبي الطموحات المتوقعة منها والإعلان الأمريكي بتحقيق الإكتفاء الذاتي لن يكون له تأثير على أرض الواقع لفترة طويلة قادة إلا في حالة التلاعب بالأسعار والمضاربة لتحقيق غاية سياسية معينة.
تحياتي لكم جميعا وشكرا لوقتكم
مدونة علوم وثقافة ومعرفة
No comments:
Post a Comment