Flag Counter

Flag Counter

Saturday, November 5, 2022

من الألف الى الياء, سيرة حياة إمبراطور النفط جون روكفلر

كان شهر فبراير/١٨٦٥ يوما لن ينساه إمبراطور النفط الأمريكي جون دافيسون روكفلر حتى بعد مضي خمسين عاما حين صرَّحَ بأنه يشير الى ذلك اليوم على أنه بداية النجاح الذي حقَّقَه في حياته. مدينة كليفلاند في ولاية أوهايو كانت على موعد مع القَدَر في ذلك التاريخ حيث شهدت بداية شركة ستاندرد أويل التي أصبحت أحد أكبر الاحتكارات النفطية في التاريخ. جون روكفلر و موريس كلارك كانا شريكين في واحدة من أكثر مصافي النفط نجاحا في ولاية أوهايو, كليفلاند, تلك المدينة الصغيرة التي استفادت من الحرب الأهلية الأمريكية و التوسع في مجال التنقيب واستخراج النفط. ولكن الخلاف وقع بين الشريكين حول سياسة الشركة في التوسع التي كان جون روكفلر يدفعها للأمام بقوة بينما كان شريكه أكثر حذرا. وأثناء النقاش بينهما, إتَّفقَ الشريكان على تصفية الشركة وعقد مزاد بينهما في نفس اللحظة وفورا. وقد فاز جون دافيسون روكفلر في المزاد وقام بشراء حصة شريكه مقابل ٧٥ ألف دولار أمريكي.

ولد جون دافيسون روكفلر أو جون د.روكفلر سنة ١٨٣٩م في ريف ولاية نيويورك الأمريكية وتوفي سنة ١٩٣٧م. ويليام روكفلر, والد جون, كان تاجر أخشاب وملح انتقل بأسرته إلى ولاية أوهايو حيث أصبح يتاجر بالأدوية والأعشاب الطبية ولقبه د.ويليام روكفلر.

كانت ملامح شخصية جون روكفلر بدأت تظهر في سن مبَكِّرَة فقد كان متدينا, مثابرا و نابغة في الرياضيات. نجح جون روكفلر في تأسيس أول نشاط تجاري له في سن السابعة حيث كان يبيع الديك الرومي. وليام روكفلر كان حريصا على تعليم أبنائه مهارات تجارية. إنَّ طموح روكفلر قاده وهو في سن السادسة عشرة الى العمل في أحد المكاتب التجارية في مدينة كليفلاند حيث التقى شريكه موريس كلارك. المكتب الذي أسَّسَه الشريكان كان يتاجر في كل شيئ تقريبا, القمح من أوهايو, الملح من ميتشيغان, لحم الخنزير من ولاية إلينوي وحتى نفط ولاية بنسلفانيا.

ولكن الحظ في كثير من الأحيان يلعب دورا مهما في تحقيق النجاح. سنة ١٨٦٣م تم بناء خط سكة حديد يمر في ولاية كليفلاند مما جعل من الممكن زيادة تنافسية الولاية في سوق النفط الأمريكية. مصفاة تكرير النفط التي أسسها جون روكفلر وشريكه في أحد المواقع على طول خط السكة الحديد كانت أكبر مصفاة تكرير للنفط من بين ٣٠ مصفاة أخرى في ولاية كليفلاند وأكثر تنظيما وتمويلا.

كانت هناك مهمة صعبة أمام الولايات المتحدة خلال الفترة التي أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية(١٨٦١-١٨٦٥) وهي التحول من بلد زراعي إلى صناعي وتأسيس الصناعات الأمريكية مثل صناعة الحديد و تعليب اللحوم و النفط وهو ما وقع عبئه على أشخاص مثل جون روكفلر. كانت تلك الفترة قد تميَّزت بالتحالفات وإندماج الشركات والمنافسة الشرسة حيث بنى جون روكفلر مصفاة تكرير أخرى وإستمر في إستثمار أمواله وأرباحه توسيع أعماله وزيادته حصَّته من السوق.

إنَّ عدوى التنقيب عن النفط كانت قد أصابت الكثيرين, حتى اللحام وصانع الشموع دخلوا في ذلك المجال. هناك قصة طريفة تروى عن جون روكفلر وشقيقه ويليام هي أنَّ خبازا المانيا مفضلا لديهم قد تخلى عن مخبزه من أجل شراء مصفاة تكرير للنفط بدائية التجهيز ولذلك قاما بشراء المصفاة وإعادته الى مهنته الأصلية. كان جون روكفلر حريصا على المحافظة على إستمرار توسُّع شركته والحفاظ على الجودة وتكاليف التشغيل المنخفضة في الوقت نفسه. أحد أهم الخطوات التي إتَّخذها من أجل حماية شركته من تقلبات السوق وزيادة مستوى أعمالها وأرباحها وهو دخول مجال التنقيب عن النفط وذلك من خلال شراء أراضي يحتمل تواجد الذهب الأسود فيها. إنَّ المصفاة التي يمتلكها جون روكفلر قد أصبحت خلال ستينيات القرن التاسع عشر أكبر مصفاة للتكرير ليس في الولايات المتحدة بل وفي العالم. 

ولكن جون روكفلر كانت سنة ١٨٦٧م مع القدر حيث التقى مع هنري فلاغر والذي يعود الفضل إليه في إقناع روكفلر بتأسيس شركة ستاندرد أويل. كان فلاجر شخصا عصاميا بدأ العمل في سن الرابعة عشرة في أحد المتاجر ونجح عند بلوغه منتصف العشرينيات في تكوين ثروة صغيرة حيث عمل في مجال صناعة الويسكي وحقق نجاحا كبيرا ولكنه تخلى عنه لاعتبارات أخلاقية. إنَّ نقطة التحول في حياة فلاجر هي إعلان إفلاسه بسبب خسارته أمواله في صناعة الملح التي إنخرط فيها في ولاية ميتشغان حيث المنافسة الشرسة بين صغار المُصَنِّعين والفوضى التي تنتج عن ذلك مما أقنعه بأهمية أعمال الإندماج وتأسيس التحالفات وتأسيس الشركات الإحتكارية.

هناك حكمة مأثورة في عالم المال والأعمال تنصى على أنَّ:" الصداقة المبنية على المصلحة خير من المصلحة المبنية على الصداقة." إنَّ تلك الحكمة قد رسمت تاريخ العلاقة بين جون روكفلر وهنري فلاغر فقد أصبح الرجلان مع مرور الوقت لا يفترقان ويشغلان مكتبين متجاورين في الغرفة ذاتها حيث يديران أعمال الشركة وإقترن إسمهما ببعضهما البعض وبصناعة النفط. كان هنري فلاغر لا يهتم إلا للمصلحة التجارية ولا مكان لكلمة ضمير في قاموسه. كان هنري فلاغر شخصا طموحا لعب دورا رئيسا في بناء خط السكة الحديد في ولاية فلوريدا ويعود الفضل إليه في بروز منطقة بالم بيتش التي تحولت لاحقا الى منطقة سياحية واقتصادية وهي كذلك إلى يومنا هذا. كانت مسؤولية هنري فلاغر في شركة ستاندر أويل هي الجانب اللوجستي الذي يشمل النقل والشحن والذي لعب دورا رئيسا في نمو الشركة ولم يكن وجود الشركة التي تحولت الى عملاق في صناعة النفط واستمرارها ممكنا من دون طموحة ومثابرته وعمله الدؤوب. 

إنَّ شركة ستاندرد أويل تمكنت بفضل جهود هنري فلاغر وسياسته من الحصول على أسعار مخفَّضة على نقل منتجاتها أكثر مما يحصل عليه منافسوها مما أدى الى زيادة أرباح الشركة. ولكن في الوقت نفسه فإنَّ ماقام به هنري فلاغر أدى الى إثارة الجدل حول المنافسة الغير عادلة رغم أن ذلك كان أمرا معتاداً بين شركات السكة الحديدة المختلفة التي كانت تمنح زبائنها خصومات على أسعار نقل شحنات النفط, كلما زادت شحنات النفط الذي تنقله تلك شركات السكة الحديد, كلما انخفضت أسعار الشحن. على سبيل المثال فقد كانت شركة ستاندرد أويل تتلقى من شركات السكك الحديد ما نسبته ٢٥% على كل دولار تكلفة نقل شحنات نفط الشركات المنافسة مقابل شحنات النفط الخاصة بها حيث كان ذلك ممكنا بفضل التأثير الذي تمتلكه شركة ستاندرد أويل التي تمتلك حقول إنتاج النفط الخاصة بها.

ولكن في الوقت نفسه الذي ساعد نمو سوق النفط جون روكفلر وهنري فلاغر على زيادة أعمالهم وأرباحهم, إلا أنه في الوقت نفسه فإن نمو الطلب كان أقل من العرض مما أدى إلى انخفاض في الأسعار بداية ١٨٦٥م وبلغ ذروته ١٨٧٠م حيث هبطت أسعار الكيروسين ٥٠%. إنَّ أزمة إنخفاض أسعار النفط لم تكن غائبة عن تفكير جون روكفلر ولكنها أيضا كانت أزمة يمكن الإستفادة منها حيث عمل جون روكفلر مع شركاء أخرين منهم هنري فلاغر على تأسيس شركة ستاندرد أويل التي قامت بشراء شركات مصافي النفط التي أعلنت إفلاسها وبدأ التحول الكبير في أسلوب عمل شركة ستاندرد أويل الذي حوَّلها من أحد الشركات المنتجة للنفط الى عملاق إحتكاري في الولايات المتحدة ولاحقا على مستوى عالمي.

هنري فلاغر الذي لعب دورا رئيسيا في تأسيس شركة ستاندرد أويل كان يرغب في زيادة الأموال المستثمرة في أعمال الشركة لكن من دون التأثير على الأرباح. وقد كانت طريقة تحقيق ذلك هي تحويل الشركة التي أسسها مع جون روكفلر إلى شركة مساهمة برأسمال مليون دولار ومجلس إدارة يتألف من خمسة أعضاء مؤسسين هم: جون روكفلر, هنري فلاغر, المخترع الكيميائي البريطاني صمويل أندروز, وليام روكفلر الإبن شقيق جون روكفلر و رجل الأعمال الشهير ستيفن هاركنس. الشركة التي تم تأسيسها كانت تسيطر على ١٠% من إنتاج وتكرير النفط في الولايات المتحدة ولكن ذلك سوف يتغير مع مرور الوقت الأمر الذي سوف يفاجئ جون روكفلر نفسه الذي صرَّحَ أنه لم يتوقع نمو الشركة ونجاحها الى ذلك المستوى.

سنة ١٨٧١م كانت الأمور في مجال صناعة النفط وتكريره تسير من السيئ الى الأسوأ حيث انخفضت الأسعار الى مستويات غير مسبوقة وأعلنت عدد من شركات النفط ومصافي التكرير إفلاسها. السبب هو أنه على الرغم من نمو سوق النفط إلا أن ذلك رافقه نمو متزايد في الإنتاج خرج عن السيطرة. كان الوضع سيئا الى درجة أن جون روكفلر أخبر زوجته أنهم:"أثرياء بشكل مستقل بدون الإعتماد على صناعة النفط." ولكن إمبراطور النفط العصامي كان يراقب الوضع ويرسم ملامح خطوته القادمة.

إنَّ أول خطوة إتَّخذها جون روكفلر كانت زيادة رأسمال الشركة من أجل صفقات الإستحواذ التي كان ينوي القيام بها. الخطوة التالية فاجئت الكثيرين وأثارت القيل والقال في الصحف حيث أنه بتاريخ فبراير/١٨٧٢ إتَّخَذَ أحد موظفي شركة السكة الحديد المحلية في ولاية بنسلفانيا وبدون أي سبب مفهوم قرارا بزيادة رسوم النقل التي تدفعها شركات إستخراج وتكرير النفط. وقد ظهرت من العدم شركة(The South Improvement Company) التي لم تكن معروفة قبل ذلك والتي كان يمتلكها من الباطن جون روكفلر وأن عدة صحف حذَّرَت من نواياه في تأسيس شركات إحتكارية في مجال النفط وهو أمر كان مستهجنا خلال تلك الفترة. ولكن ذلك لم يكن إلا أحد جوانب خطة روكفلر من أجل السيطرة على سوق النفط في الولايات المتحدة.

الجانب الأخر كان ليس من أفكار جون روكفلر ولكنه في النهاية فإنه وكما يقول المثل كل الطرق تؤدي الى روما. بتاريخ فبراير/١٨٧٢, شركات السكة الحديد المحلية عقدت إتفاقا مع شركات النفط قسَّمت بموجبه الأسواق وأي شركة لم تنضم الى الإتفاق كانت تدفع رسوما مضاعفة على شحن منتجاتها من النفط ومشتقاته وتوزيع الفرق في أسعار الشحن على الشركات الأعضاء في الإتفاقية. ومجدَّدا, تظهر شركة The South Improvement Company في جميع تفاصيل تلك الإتفاقية الاحتكارية.

ولكن الأمر لم يستمر طويلا لأنَّ ثلاثة آلاف من صغار المنتجين والمستقلين تجمعوا في دار الأوبرا في مدينة Titusville معترضين على ممارسات جون روكفلر وشركة The South Improvement Company وشركات السكة الحديد ومعلنين بداية حرب النفط. الإحتجاجات إنتقلت من بلدة إلى بلدة حيث أدان المحتجون بغضب تلك الممارسات التي وصفوها بأنها وحش وأنها شركة الأربعين لصا. المنتجون المستقلون و صغار ملاك مصافي التكرير قرروا مقاطعة شركات النفط والسكة الحديد الأعضاء في ذلك الإتفاق الإحتكاري. وقد كانت المقاطعة فعالة للغاية حتى أن مصافي شركة ستاندرد أويل في مدينة كليفلاند والتي كانت يعمل فيها ١٢٠٠ موظف لم تكن قادرة على توظيف أكثر من ٧٠ بسبب انخفاض كميات النفط التي تقوم بتكرارها.

جون روكفلر لم يتراجع ولم يغيِّر في مخطَّطِه من أجل السيطرة على سوق النفط في الولايات المتحدة بل على العكس فقد زاد من تصميمه على ذلك. وبحلول ربيع سنة ١٨٧٢م, كانت شركة ستاندرد أويل قد نجحت في شراء أغلب مصافي تكرير النفط في ولاية كليفلاند وأهم وأكبر المصافي في ولاية نيويورك وتم إغلاق شركة The South Improvement Company بعد إنتهاء الغرض من تأسيسها. جون روكفلر كان هو المستفيد الرئيسي من حرب النفط وانخفاض الأسعار التي أدت إلى إفلاس عدد كبير من المنتجين ومصافي تكرير النفط المستقلة والتي كان مصيرها استحواذ شركة ستاندرد أويل عليها والتي أصبحت أكبر شركة تكرير النفط في العالم.

إنَّ فترة سبعينيات القرن التاسع عشرة زيادة غير مسبوقة في مستويات الإنتاج على الرغم من محاولات المنتجين الرئيسيين تخفيضها. فقد كان هناك عدد كبير من المنتجين الذين كانوا غير ملتزمين بأي إتفاقيات أو مرتبطين مع شركات إنتاج النفط الرئيسية. كما أنَّه كانت هناك حقول جديدة يتم إكتشافها بإستمرار حيث فشلت جميع محاولات تنظيمها أو إقفال بعض مناطق الإنتاج. سعر برميل النفط بسبب تخمة الإنتاج خلال تلك الفترة انخفض إلى مستوى ٤٨ سنت/برميل, أقل ٣ سنتات من سعر كمية مماثلة من المياه التي كانت ربات البيوت تقوم بشرائها. جون روكفلر الذي كان يشعر بالقلق من الوضع الحالي كان يخطِّطُ من أجل خطوته التالية بعد فشل جميع المحاولات السابقة وكان هدفه هو شركات تكرير النفط.

وليام روكفلر عضو مؤسس في شركة ستاندرد أويل وشقيق جون روكفلر وصف الإجراءات التي اتخذها شقيقه بأنها أشبه ما تكون بإعلان الحرب. جون روكفلر كان يرسل مندوبين الى مصافي تكرير النفط في مناطق معينة ويعرض شرائها أو انضمامها إلى ستاندرد أويل وإذا كان الجواب هو الرفض, فقد كان يقوم ومن خلال منتجين تابعين له من الباطن بتخفيض الأسعار في تلك المنطقة حتى يعلن خصومه إفلاسهم ويقوم بشراء شركاتهم بأبخس الأسعار. ومع حلول نهاية سنة ١٨٧٩م, كان جون روكفلر قد نجح في الاستحواذ على ٩٠% من مصافي النفط في الولايات المتحدة. ولكن على الرغم من ذلك فقد كانت هناك المزيد من التحديات في طريقه من أجل تنفيذ خطته والنجاح في تحقيق إحتكار شركة ستاندرد أويل صناعة التنقيب عن النفط وتكريره في الولايات المتحدة والعالم.

كان جون روكفلر يعتقد مع إقتراب فترة تسعينيات القرن التاسع عشر من نهايتها أنه قد حقَّق السيطرة الكاملة على سوق النفط. ولكن المنتجين المستقلين قاموا بمحاولة أخيرة في سبيل الإفلات من براثن شركة ستاندرد أويل وكسر احتكارها سوق النفط في الولايات المتحدة حيث قاموا ببناء أول خط أنابيب طويل المدى عابر للولايات وأطلقوا عليه الإسم تايد ووتر(Tidewater).

إن تنفيذ ذلك المشروع على أرض الواقع كان بالغ الصعوبة من الناحية التقنية حيث أن طوله يبلغ ١١٠ أميال يمتد من مناطق الإنتاج الرئيسية الى نقطة توزيع في ولاية بنسلفانيا وتقاطع خطوط السكة الحديد من أجل تحقيق المرونة في عملية النقل والتوزيع. ولكن على عكس التوقعات فقد بدأ النفط يتدفق من خلال خط الأنابيب في مايو ١٨٧٩م ونجح في منافسة منظومة السكك الحديدية التي كانت شركة ستاندرد أويل تتحكم فيها بطريقة أو بأخرى. ولكن شركة ستاندرد أويل لم تقف موقف المتفرج بل سارعت وفي فترة قياسية إلى بناء أربعة خطوط أنابيب طويلة المدى من مناطق الإنتاج الرئيسية إلى ولاية كليفلاند, نيويورك وبنسلفانيا. حتى أنه مع حلول سنة ١٨٨١م, كانت شركة ستاندرد أويل تملك حصة ثانوية في خط أنابيب تايد ووتر(Tidewater) مما جعل من الممكن عقد اتفاق معها حول تنظيم المنافسة وتوزيع الحصص في مناطق الإنتاج. إن فكرة خطوط أنابيب نقل النفط العابرة للولايات قد جعلت شركة ستاندرد أويل تسيطر على جميع خطوط الأنابيب في الولايات المتحدة باستثناء تلك التي تملكها شركة الإسم تايد ووتر(Tidewater).

إنَّ خصوم ومنافسي جون روكفلر وشركة ستاندرد أويل لم يقفوا متفرجين وقد بقي لديهم وسيلة واحدة من أجل محاولة كسر إحتكار الشركة وذلك من خلال المحاكم ولوبيات الضغط السياسي. ومع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته فقد تم تسجيل عدد من القضايا في محاكم ولاية بنسلفانيا ضد ممارسات شركة ستاندرد أويل الاحتكارية خصوصا سياسة أسعار النقل التمييزية التي كانت تمارسها شركات السكة الحديدية المحلية بتأثير من جون روكفلر والهدف كان توجيه تهم جنائية ضد الشركة ورئيس مجلس إدارتها. وفي الوقت نفسه, عقدن جلسات إستماع قانونية في ولاية نيويورك ضد ممارسات شركات السكة الحديد ركَّزت على جون روكفلر والتأثير الذي يمارسه في ذلك القطاع على أسعار النفط ومشتقاته.

إن تلك الحملة في ولاية نيويورك وبنسلفانيا كانت هي أول مناسبة تم من خلالها تسليط الضوء على النشاط الاحتكاري الذي كانت شركة ستاندرد أويل تقوم بممارسته. وقد بذلت محاولات قانونية محمومة من أجل إعتقال جون روكفلر في ولاية نيويورك وترحيله الى ولاية بنسلفانيا من أجل محاكمته هناك إلا أنه نجح وبفضل نفوذه لدى حاكم نيويورك في إفشال تلك المحاولات. ولكن كل ذلك أدى الى توجه سلبي لدى الرأي العام ضد شركة ستاندرد أويل وضد شخص جون روكفلر بوصفه شخصا لايرحم منافسيه ويقوم بتنفيذ مخططاته بدون أو شعور بالندم أو أي رادع أخلاقي.

الصحفي هنري لويد(Henry Demarest Lloyd) نشر مجموعة من المقالات في صحيفة (Chicago Tribune) ومن ثم مقالا في صحيفة (Atlantic Monthly) بعنوان (The Story of Great Monopoly) حول شركة ستاندرد أويل وممارساتها الاحتكارية. وقد كانت كانت الحملة الإعلامية ضد جون روكفلر وشركته في ذروتها حتى أنَّ عدد مجلة(Atlantic Monthly) الذي نشر المقال قد أعيدت طباعته سبعة مرات. الصحفي هنري لويد ومن خلال المقالات التي نشرها كان أول من تحدَّث بالتفصيل عن شركة ستاندرد أويل وكشف عن ممارساتها وسياستها في خنق الأسعار من أجل إفلاس المنافسين. جون روكفلر لم يعد قادرا على الإستمرار في البقاء في الظل بعيدا عن أضواء الإعلام وأقلام الصحفيين. ولكن على الرغم من كل ذلك ومن الحملة الإعلامية ضِدَّه, إلا أن تأثيرها عليه وعلى أعمال شركته بقي تأثيره على المدى القصير محدودا للغاية.

كان على جون روكفلر أن يكون خلال تلك الفترة العصيبة في تاريخ شركة ستاندرد أويل أكثر حذرا في بناء هيكلية الشركة وذلك من الناحية القانونية خصوصا مع الحملة الإعلامية ولجوء خصومه الى المحاكم ولوبيات الضغط. جون روكفيلر لم يكن ينقصه الذكاء ودقة التخطيط حيث تحكَّمَ بطريقة غير مباشرة بعشرات الشركات الفرعية ولم يترك للخصوم أي ثغرة قانونية يستغلونها في دعاوي مكافحة الإحتكار التي أقيمت ضدَّه. فقد كانت شركة ستاندرد أويل أشبه ما تكون بصندوق ائتماني يمتلك المساهمون فيه وليس الشركة الأم تلك الشركات الفرعية ولكنهم في الوقت نفسه مسؤولون أمام جون روكفلر الذي بإمكانه أن ينكر تحت القسم أن شركة ستاندرد أويل لا تمتلك أي حصص في شركات أخرى.

خلال شهادته أمام اللجنة التشريعية في ولاية نيويورك, تحدَّث أحد أعضاء مجلس الإدارة أن شركات ومصافي تكرير النفط تعمل في تناغم طوعيا من أجل حماية مصالحها. بينما وصف أحد المساهمين في شركة ستاندرد أويل والذي يرأس مجلس إدارة أحد الشركات الفرعية أمام نفس اللجنة أن شركته ليس بينها وبين ستاندرد أويل أي روابط قانونية وأن علاقاته مع الشركة ليست إلا علاقات شخصية.إن الأسهم في الشركات الفرعية كانت مملوكة من مساهمين في شركة ستاندرد أويل في أوهايو وليس من الشركة نفسها. 

إنَّ مفهوم الصندوق الإئتماني(Trust Fund) الذي عملت وفق بنوده شركة ستاندرد أويل قد تمت صياغته بتاريخ ٢/يناير/١٨٨٢ وذلك ردا على المشكلات القانونية التي تمت إثارتها ضد الشركة نهاية السبعينيات وبداية ثمانينيات القرن التاسع عشر. وفي الوقت نفسه الذي تم الإعلان عن تأسيس شركة ستاندرد أويل شركة مساهمة في ولاية أوهايو, فقد تم تأسيس شركات فرعية في ولايات أمريكية كانت تسيطر من خلال حملة الأسهم أعضاء مجلس إدارتها والذي هم في الوقت نفسه مساهمين في الشركة الأم على الشركات الفرعية في تلك الولاية. وفي سبيل تحقيق أكبر قدر من المرونة في عمل الشركة, تم تأسيس لجان متخصصة كل في مجاله, لجنة التجارة المحلية, لجنة للصادرات و لجنة خطوط الأنابيب وأخرى صناعية تختص بعمليات تصنيع المنتجات المختلفة مثل الكيروسين و٣٠٠ منتج مختلف تنتجها مصافي التكرير التي تتبع الشركات الفرعية الأخرى. بينما على رأس الهرم اللجنة التنفيذية التي كانت تصدر ليس الأوامر بل التوصيات والإقتراحات ولكن لم يكن هناك أي شك في سلطتها ونفوذها. إنَّ طريقة عمل الشركة يمكن تلخيصها في أحد تصريح جون روكفلر خلال أحد المناسبات:" أنتم أيها السادة لديكم القدرة في إصدار القرارات على أرض الواقع أفضل منا, ولكن دعونا لا نعتمد صيغة اتفاق رسمي تجعل من غير الممكن التحكم في سياسة الشركة."

إن الخطوط الرئيسية في إستراتيجية الشركة والتي كانت تحكم أسلوب عملها يمكن تلخيصها في الحفاظ على التكاليف منخفضة قدر الإمكان. وقد كان ذلك يتطَلَّبُ تحقيق أقصى كفائة عملياتية, إتقان التحكم والسيطرة على التكاليف, مستوى الإنتاج المرتفع, التطوير المستمر في التكنولوجيا المستخدمة في عمليات الشركة المختلفة والتوسع المستمر من خلال البحث عن أسواق جديدة. 

إن سياسة روكفلر في توسيع سيطرة الشركة على مصافي النفط المنافسة وذلك في سبيل تحقيق أفضل كفاءة ممكنة قد جعلت من مصافي الشركة الأربعة في كليفلاند, بايون-نيوجيرسى و فيلادلفيا مسؤولة عن ربع الإنتاج العالمي من مادة الكيروسين. شركة ستاندرد أويل كانت تمتلك نظام إدارة وأرشيف متطوِّر للغاية في أساليبه حيث كانت هناك سجلات مفصَّلة عن المنافسين وكل مشتري للنفط في طول الولايات المتحدة وعرضها, حيث يشمل ذلك خريطة تُظهِرُ موقع كل برميل نفط يتم شحنه من خلال المنتجين المستقلين ووجهته النهائية و مكان كل محل بقالة يشتري الكيروسين والشركة التي يقوم بالشراء منها. أسلوب في الإدارة من الإحترافية بحيث لايمكن إنجازه في عصرنا الحالي إلا من خلال عدد كبير من الموظفين الذين يستعينيون بكل أدوات التكنولوجيا المُتَوَفِّرة من الإنترنت, أجهزة الكمبيوتر, الإيميل الإلكتروني, أنظمة الجي بي إس(تحديد المواقع من خلال الأقمار الصناعية), الهواتف المحمولة وأحدث أجهزة الإتصالات.

إن سيطرة جون روكفلر بواسطة شركة ستاندرد أويل على جانب الإنتاج من صناعة النفط كان لابد من أن يرافقه سيطرة مماثلة على الجانب التسويقي الذي يتمثل في كفاءة المبيعات وتحقيق أفضل نتيجة ممكنة من أحدث تقنيات الدعاية والبروباغندا المتوفرة خلال تلك الفترة. مع إقتراب ثمانينيات القرن التاسع عشر من نهايتها, كانت شركة ستاندرد أويل تسيطر على السوق بفضل الإختراعات وطرق الدعاية المبتكرة بعد أن سيطرت على إنتاج النفط وتكريره. مندوبي المبيعات التابعين للشركة تم تدريبهم من أجل تحقيق أفضل نسبة مبيعات مهما كان الأسلوب المستخدم حتى لو كان ذلك يعني استفزاز المنافسين والزبائن في الوقت نفسه. الإبتكارات ساهمت أيضا في زيادة الحصة السوقية للشركة مثل إستبدال البراميل الخشبية بصهاريج معدنية وتوزيع النفط من خلال عربة صهريج يجرها حصان. إبتكار آخر ساهم في نقلة نوعية في أحد أهم جوانب عمل الشركة وهو استبدال عربات القطار التي كانت تنقل من خلالها براميل النفط الى عربات صهريج مما يعني زيادة الكمية التي يمكن نقلها وتقليل الفاقد.

كان جون روكفلر على الجانب الشخصي يفضِّلُ أن يحافظ على مسافته من الأخرين فقد كان الوصول اليه صعبا وظهوراته العامة قليلة للغاية. كما أنه خلال اجتماعات العمل, يفضِّلُ الإستماع أكثر من الكلام. أحد العاملين معه يصفه بأنه كان شخصا بدون أي مشاعر حيال ما يقوم به من جهود في سبيل تحويل ستاندرد أويل إلى أكبر شركة احتكارية للنفط في العالم. إن الفترة الزمنية (١٨٧٠-١٨٨٠) هي الفترة التي بدأت فيها خطط توسيع الشركة تحقق أهدافها. ولكنها في الوقت نفسه كانت فترة عصيبة للغاية على ستاندرد أويل وعلى جون روكفلر شخصيا الذي تعرَّض الى حملات إعلامية وسياسية أصابته بالتوتر والإرهاق.

كان جون روكفلر وعلى الرغم من أنه أثرى شخص في الولايات المتحدة إلا أنه كان مقتصدا في الإنفاق حتى على نفسه مما كان يثير حيرة عائلته نفسها. فقد كان يصِرُّ على إرتداء البدلة الرسمية نفسها حتى ذهبت الوانها وأصبح إستبدالها أمرا لا مفرَّ منه. كما أنَّ وجبته المفضَّلة كانت الحليب مع الخبز. وهناك حادثة مشهورة عنه جون روكفلر هي أنه قام بدعوة أحد رجال الأعمال البارزين في مدينة كليفلاند رفقة زوجته من أجل أن يمضي الصيف في إقطاعيته الفارهة التي تقع في أحد ضواحي المدينة ولكنه أرسل له لاحقا فاتورة بقيمة ٦٠٠ دولار هي تكاليف إقامته ستة أسابيع. كان جون روكفلر من الأشخاص الذين لا يتمتعون بحس الفكاهة والدعابة ولا يظهر أي إحساس بذلك إلا ضمن إطار الدائرة العائلية الضيقة, خلال الغداء على سبيل المثال, قد يغني للجالسين على المائدة أو يلقي بعض النكات.

كما كان جون روكفلر ملزما دينيا مع كنيسته المعمدانية(The Baptist Church) حيث كان مسؤولا عن مدرسة يوم الأحد في الكنيسة حيث تلقى عظات دينية ويعقد الحاضرون اجتماعا يتدارسون فيه الكتاب المقدس.

كان جون روكفلر يقوم بالتبرع الى كنيسته المعمدانية منذ اللحظات الأولى التي بدأت فيها يكسب مالا, منذ سن السابعة حين كان يبيع طيور الديك الرومي. وقد ازدادت تلك التبرعات الى الكنيسة مع إزدياد ثروته. وقد كان جون روكفلر متبرعا سخِّيا ولكنه في مجال التبرعات والأعمال الخيرية فقد كان يتَّبِعُ نفس المعايير التي يطبقِّقها في شركته وأعماله الخاصة. سنة ١٨٩٠م, قام جون روكفلر بتأسيس جامعة شيكاغو وأصبح أكبر متبرع لها. فقد تبرع سنة ١٩١٠م إلى جامعة شيكاغو مبلغ ٣٥ مليون دولار مقارنة مع مجموع التبرعات الأخرى في تلك السنة التي بلغت ٧ مليون دولار. وعلى الرغم من تبرعات جون روكفلر إلى جامعة شيكاغو إلا لم لم يكن يتدخل في شؤون الجامعة خصوصا الأكاديمية ولكن عليها أن تكون ملتزمة بأن لاتخرج عن ميزانيتها السنوية.

جون روكفلر وزوجته كانا يعاملان أولادهما بحرص شديد حتى لا يفسدهم الثراء. الأولاد كانوا يعملون في العطلة المدرسية في حدائق الإقطاعية حيث يقع منزل الأسرة ويتقاضون أجرا مماثلا لما يتقاضاه العمال الآخرون. كما أنهم كانوا يتناوبون على ركوب الدراجة الهوائية ذاتها حتى يتعلموا قيم الإيثار و المشاركة بين بعضهم البعض. جون روكفلر جونيور(الإبن) كان يمشي من المنزل إلى المدرسة والعكس وليس مثل أولاد الأثرياء الذين كانوا يركبون رفقة الخدم العربات التي تجرها الأحصنة. ويذكر جون روكفلر الإبن رحلته رفقة والده, والدته وإثنين من قساوسة الكنيسة الى أوروبا مدَّة ثلاثة أشهر حيث كان جون روكفلر الأب يدقِّقُ في الفواتير ويقرئها بندا بندا ولايدفع قرشا واحدا بدون أن يكون متأكدا من الفاتورة.

إنَّ شركة ستاندرد أويل توسَّعت خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر وضمَّت قسما للأبحاث العلمية فقد كان شعار الشركة كمذ بدايتها هو الحفاظ على الجودة مع الحفاظ على الأسعار المنخفضة لمنتجاتها في الوقت نفسه. الحوادث والإصابات بسبب الكيروسين سيئ التصنيع في الولايات المتحدة بلغت 6 آلاف وفاة وعدد آخر من الإصابات المختلفة. ولكن جون روكفلر كان مصرَّاً منذ اليوم الأول على الحفاظ على معايير الجودة في منتجات شركته وذلك كان مستمدا من إسمها (Standard).ولكن الكيروسين المستخرج من النفط ليس المنتج الوحيد للشركة بل كانت هناك عشرات المنتجات الأخرى لعل أشهرها الفازلين. وهناك أيضا منتجات مثل الديزل, زيوت التشحيم و البرافين الذي يستخدم في صناعة الشموع.

إنَّ الحديث عن تاريخ جون وركفلر وشركة ستاندرد أويل كان يشمل سيطرة الشركة على سوق المنتجات النفطية من خلال سيطرتها على مصافي تكرير النفط وبراعتها في الدعاية والتسويق. ولكن هناك جانب أخر لايقل أهمية وهو إنتاج النفط من خلال حقول ولاية بنسلفانيا حيث حقول إنتاج النفط الرئيسية والتي حذَّرَ الخبراء من أن جفافها من النفط السطحي مجرَّدُ مسألة نفط. هناك مصطلح شائع في بدايات استخراج النفط في الولايات المتحدة وهو وايلد كاترز(Wildcatters) حيث يمكن إيجاد النفط على بعد أمتار قليلة داخل الأرض. إن تكنولوجيا الحفر التي كانت تستخدم خلال تلك الفترة كانت بدائية وليست على درجة من التطور بحيث تسمح بإيجاد النفط على مسافات بعيدة من سطح الأرض. الخطوة الأخيرة التي قام بها جون روكفلر في سبيل تحقيق سيطرته الكاملة على قطاع النفط في الولايات المتحدة هو مجال إستخراج والتنقيب عن النفط.

ولاية أوهايو وتحديدا الأراضي التي تقع في الجزء الشمالي الغربي من الولاية كانت تعتبر المكان التالي بعد حقول النفط في ولاية بنسلفانيا حيث يمكن أن تجد شركات النفط موطئ قدم لها هناك حيث أنه ومع حلول نهاية فترة ثمانينيات القرن التاسع عشر, كانت تلك الحقول تنتج ثلث إنتاج النفط في الولايات المتحدة. حقل ليما(Lima) الذي يقع على الحدود بين ولاية أوهايو وانديانا يعتبر أحد حقول الإنتاج الرئيسية.

كانت حقول إنتاج النفط في ولاية أوهايو وحقل ليما على وجه الخصوص بمثابة فرصة لاتعوض للشركة من أجل تحقيق سيطرة أكبر وحماية نفسها من تقلبات الأسعار واحتكار شركات إنتاج النفط والمنتجين المستقلين. جون روكفلر ساع إلى استغلال تلك الفرصة ولكن كان أمامه عقبتين رئيسيتين, الأولى هي نوعية النفط الذي كان يتم إستخراجه في تلك المنطقة والذي كان يتميز برائحة نفاذة نتيجة تركيبته التي تحتوي على نسبة مرتفعة من مادة الكبريت. بينما الثانية هي شركاء روكفلر وأعضاء مجلس الإدارة المتردِّدين والذين يعتبرون أن دخول الشركة مجال إستخراج النفط أو شرائه وتخزينه بكميات كبيرة على الرغم من إنخفاض الأسعار كان مخاطرة كبيرة. أسعار النفط خلال الفترة ١٨٨٦-١٨٨٧ انخفضت من ٤٠ سنت/برميل إلى ١٥ سنت/برميل وكان توجه جون روكفلر هو شراء كميات كبيرة وتخزينها في منشآت تخزين وصهاريج في طول الولايات المتحدة وعرضها, ولكنه واجه اعتراضات أعضاء في مجلس إدارة الشركة ضد تلك الخطوة.

إنَّ إصرار جون روكفلر على رأيه أثبت صوابه في النهاية فقد نجح في شراء ٤٠ مليون برميل من النفط وتخزينها في الوقت نفسه إرتفعت أسعار برميل النفط المستخرج من حقول ليما من ١٥ سنت/برميل الى ٣٠ سنت برميل. كما أنَّ هيرمان فراش(Herman Frasch) نجح في فصل الكبريت عن النفط وذلك بإستخدام مادة أوكسيد النحاس مما جعله صالحا للاستخدام في إنتاج مادة الكيروسين بعد تخليصه من تلك الرائحة الكريهة التي تشبه رائحة البيض المتعفن. جون روكفلر نجح في تحقيق خطوته الأخيرة من أجل السيطرة على قطاع النفط في الولايات المتحدة من خلال شراء مساحات واسعة من مناطق التنقيب التي أثبتت الدراسات إحتمال تواجد كميات كبيرة من النفط فيها. سنة ١٨٩١م وعلى الرغم من أنَّ شركة ستاندرد أويل كانت غائبة عن مجال إنتاج النفط ف السنوات التي سبقتها, إلا أنها نجحت في تحقيق مستوى إنتاج النفط الخاص بها يعادل ربع كمية النفط الذي يتم إنتاجه في الولايات المتحدة.

أسلوب السرية والكتمان كان ومازال يحكم عمل شركة ستاندرد أويل حيث كانت عملية بناء أكبر مصفاة تكرير للنفط على ضفاف بحيرة ميشيغان في ولاية إنديانا تجري على قدم وساق. مراسل صحيفة شيكاغو تريبيون(Chicago Tribune) وجد أنه من المستحيل الحصول على أي تصريح من مدير المشروع Mr. Marshal الذي كان يجري بناؤه في منطقة وايتينغ (Whiting). المراسل كان يعتقد أنَّ المشروع الذي تشير التقارير الأولية الى أنه عبارة عن مصنع لحوم الخنازير وأن تكلفته تزيد عن ٥ مليون دولار ولكنه كان عاجزا عن الحصول على إجابة أو معلومة مؤَكَّدة.

إنَّ دخول شركة ستاندرد أويل مجال إنتاج النفط أدى الى نقلة نوعية للشركة وقطاع النفط في الولايات المتحدة. السبب هو أنه في السابق, كانت الشركة تقوم بشراء النفط من خلال السوق المفتوح في بورصة نيويورك ومن منتجين مستقلين حيث كانت تقلب الأسعار هبوطا أو صعودا أمرا خارجا عن سيطرتها.

 وكالة جوزيف سييب(Joseph Seep) التي كانت عبارة عن شركة تتبع ستاندرد أويل وتقوم بشراء النفط لحساب الشركة قامت بإرسال رسالة بعنوان (Notice to Oil Producers) مفادها أنَّ أسعار النفط في البورصة لايمكن أن تعتبر منذ تلك اللحظة مصدرا موثوقا من أجل تحديد مصداقية ودقة الأسعار وأن عمليات الشراء سوف تكو بسعر السوق ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك السعر مرتبطا مع نظيره في البورصة حيث يجري تبادل عقود شراء وبيع النفط. كما أضافت الرسالة أنَّ أسعار شراء النفط الخام سوف يكون مصدرها حصريا من مكتب الشركة. إن شركة ستاندرد أويل بوصفها تسيطر على ٨٥%-٩٠% من إنتاج النفط في حقول منطقة بنسلفانيا و ليما-إنديانا, قد أصبحت هي المسؤولة عن تحديد سعر شراء برميل النفط في الولايات المتحدة.

توفي جون روكفلر سنة ١٩٣٧م عن عمر ثمانية وتسعين ولكنه ترك ورائه إرثا أسطوريا بكل ماتحمله الكلمة من معنى. فقد كان أول ملياردير في تاريخ الولايات المتحدة وقيمة ثروته عند وفاته بلغت ٤٠٠ مليار دولار مما جعل التاريخ يخلِّد إسمه بوصفه حتى تاريخ كتابة هذا الموضوع أنه أغنى شخص وفي الوقت نفسه أغنى رجل أعمال في العالم ولم ينافسه في ذلك إلا ملك مملكة مالي منسي الأول(١٢٨٠م-١٣٣٧م) الذي إقتربت ثروته بمعايير هذه الأيام من حاجز ٤٠٠ مليار دولار.

كانت شركة ستاندرد أويل إنجازا عملاقا عجز عن التفوق عليه المنافسون. لكن الشركة لم تكن إحتكارا كما يصفها المنافسون بل تسيطر على ٨٠% من سوق النفط في الولايات المتحدة وهو أمر كان مرضيا بالنسبة الى مدرائها التنفيذيين ورئيس مجلس إدارتها جون روكفلر خصوصا أنَّ تلك النسبة كانت تضمن القدرة على التحكم في فوضى الأسعار التي سادت في سوق النفط فترة زمنية طويلة.

إنَّ حجم الإنجاز الذي تمكن جون روكفلر من تحقيقه بواسطة شركة ستاندرد أويل أثارة حيرة رجال أعمال أخرين وحتى جهات حكومية أمريكية مثل إدارة التعدين والمصادر الطبيعية(Mineral Resources) التي صرَّحت سنة ١٨٨٢م أنَّ ماقامت به الشركة بلا شك هو عمل عظيم ولكن الحكم عليه من منظور الخير والشر هو أمر غير ممكن. الشركات المنافسة وصفت ستاندرد أويل بأنها أخطبوط وأن جون روكفلر وحش عديم الرحمة وقلبه خالي من المشاعر مما أثار غضب العاملين والمدراء في الشركة. ولكن بالنسبة إلى جون روكفلر, فقد كان لا يهتم لتلك الانتقادات والتي كان بعضها حاداً لأقصى درجة وذلك لأنه كان يعتبر ما قام به لا يخرج عن جوهر و روح الرأسمالية حيث أنه تمكن من تحقيق الإستقرار والقضاء على الفوضى في سوق النفط.

وفي الوقت نفسه, فشل المدراء الذي خلفوا جون روكفلر في إدارة الشركة في محاولتهم تحقيق السيطرة على سوق النفط العالمي حيث برز الى الوجود رجال أعمال وشركات أخرى خارج الولايات المتحدة في أماكن مثل باكو, سومطرة, بورما وإيران تمكنوا من إثبات وجودهم منافسين حقيقيين وإن بقيت السيطرة للشركة والشركات الأخرى التي تفرعت عنها(الأخوات السبعة) ولكنها وجدت نفسها في وضع اضطرت إلى التعايش معه واقتسام سوق النفط مع آخرين.

مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والمعرفة

رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة

https://science-culture-knowledge.blogspot.com/2022/11/blog-post_5.html

الرجاء التكرم الضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة

النهاية


No comments:

Post a Comment